أفسّرُ ابتسامة الفجر بأنها: استيقاظ الحياة. ثم أركبُ حصاناً اسمه الأمل وأشقُ به غموض البداية، ممتداً به حتى ارتفاع الظهيرة ووضوح النهار. وأنا بذلك إنما أقلّدُ الفلاّح في المسعى ولكن أرضي تربة الأحلام وزرعي فضّة الندى. وُلدتُ مجبولاً على ملاحقة الضوء وكأنني سليلُ فراشات سحيقة، وعشتُ أبحث عن (الأرواح المضيئة) الى أن عثرت ُ على رموزها. حدث هذا في لحظة كشفٍ نوراني حين تراءت لي الأجسادُ وكأنها مجرد تجليات لشيء أعظم، شيء أسمى. وأن هناك على هذه الأرض بشراً مروّا بيننا في هيئات بشرية، لكنهم في الحقيقة كائنات ضوء تظلُّ تُشعُ حتى بعد موتها لسنوات طويلة. وأن المقابل الضدي لهؤلاء هم (الأرواح المعتمة) الغارقة في ظلامٍ لا يمكن الفكاك منه. وفي المسافة الشاسعة جداً بين العتمة والضوء يعيش أغلب الناس مرتفعين مرةٍ وهابطين مراتٍ، والفارق بين هذا وذاك يكمن في الوعي، في اليقظة التي تنبعٌ من القلب وتقود صاحبها الى الارتفاع بعيداً لملامسة منابع النور. والأرواح المضيئة لا تموتُ ولا تفنى، وإنما تهبطُ الى الأرض وتُحدثُ دويّها الفضيّ لإيقاظ البشر من الغفلة، ثم تتركهم أمام خيارات الانتماء الى الحقيقة الواضحة التي يعرفها القلب، أو السقوط في شرك الدونية والسخط والامتلاء بكراهية الذات والآخرين.
أيضاً تكشّفت حقيقة اليقظة بأنها نصيبك من المعرفة، وهو النصيب الذي يأتيك بمقدار ما تحتاجه، وأن هناك عدالة ما ليس في الرزق المادي فقط، وإنما في الرزق المعرفي. والعارف، أو الذاهب إلى نبش مكامن الضوء هو الذي يستزيدُ من هذا الرزق، وهو الذي يملك بالتالي تغيير قدره من كائن يغرقُ في العتمة الى كائنٍ يسبحُ الضوء، ومن قلبٍ تغلّفُه الغفلة الى روحٍ ضوؤها الانتباه ودربها الوضوح وتوقها السمو. وعدالة الرزق المعرفي لا تتأتى بقراءة الكتب، وإنما بتطهير القلب أولاً من النوايا الخبيثة، وبتطهير الكلمة من نصفها المراوغ، وبجعل الاستقامة في القول والفعل منهج حياة. لذلك نرى شعراء قرأوا الكتب نفسها، بعضهم يصعدون للضوء وآخرون ينزلقون الى الرماد، ونرى علماء تحولوا إلى شياطين، وأميين كأنهم ملائكة.
المعرفةُ إذن هي ما يعيه القلب الذي كلما طهرناه، كلما تكشّف شكله النوري وراح يقشع العتمة من الدرب. أما العقل، فهو آلة القلب ويدهُ وانعكاس منهجه فيما نكره وفيما نحبُّ.