- ينهزم الإنسان من الحياة، حين يعلن تعبه أمامها، وحين يفترق عنه ظله، ذاهباً وتاركه وحده نحو ظلمة زرقاء تغيب فيها الأشياء للعدم.
حين يستيقظ، ولا يجد حديقة خضراء في بيته، أو أية أشجار تحتل أركانه، تنهض عطشى أو ذبلانة، أو بحراً يمتد من شطآنه إلى شطآنه، لا يرى شيئاً، غير قفص إسمنتي، معلق، معزول، ومطلية جدرانه!
- حين يلتفت إلى العمر المنقضي، ولا يجد مِن صُلبِه مَن يكون عكّازته، أو يمسك بيده، يوصله إلى كرسيه الخريفي في حديقته، حيث ترك هناك كتاباً قديماً، ونظارة رقيقة، وذكرى رفيقة درب، سبقته إلى المحطة الباردة، وهو اليوم يحنّ لها بألم عجوز، مسن، يشتهي التنقل والانتقال!
- حين يكبر مع مدينة، هي كل شقاء حبه، وقلقه، وألقه، وماء عينه، وحين كبرت وكبر، لم يجد زاوية ظليلة تحنو عليه، وتضم خرفه، وآخر عمره!
- حين يتفقد أركان بيته الجديد، ولا يجد نخلة فارعة، زاهية، تشعره أنها من أهل بيته، وأن شعراً أو زغباً له أو لأبنائه دفن تحت ثراها، وأنها ما زالت تتفقد للغائب من أهل البيت، وأن الآيب أول ما يهبط من سفره، تكون هي محط البصر، وهي سيدة البيت!
- حين يذهب في بلاد الله، كدرويش سابح بالحمد، وآيات الله، يريد أن ينقش أشياءه على صدور من يهوى، لكن في ليل التجلي، ومِسك الصوفية، وسلاطين المعرفة، يغيّب الدروب، وقبس النور، وأسماء من كان يغوى!
- حين يريد أن يرجع إلى صباه، يتذكر طفولة نضجت على عجل، ويريد أن يمسك بخيوطها الأولى، يعيد كرة إلى رفيقه، يمسك بطائرة ورق قرمزية سرقتها الريح في غفلة منه، يسمع لنداء أمه، ويعود للبيت قبل حلول الليل، ليستحم، ويكتحل، ويطارد جن الحكايات، يريد تلمس كل تلك الأشياء، فلا يجد رفاق المكان الأول، ولا أصدقاء مقعد الصف الأول، ولا أطلال المنزل الأول!
- حين ترهقه الدنيا، ويريد أن يعرف أين ذهب أصدقاء الدنيا، وأين أعداء الدنيا؟ وأين الاختلاف والخلاف على الدنيا؟ يتلفت فلا يجد إلا نفسه، ومرآة تظهر عدو نفسه!
- حين يريد أن يذهب صوب خصوصيات كانت عطراً، وكانت سهماً من وقت، وكانت عمراً، كانت ترجف القلب، وكانت تخصب القلب، لكنه قبل أن يصلها، ويوصلها، سبقه من جاء، وجزّ العشب والورد، وكان خالي القلب، عديم الود!
- حين لا يفقهون من صلاته غير التمتمة، ولا من آذانه غير الهمهمة، ولا من الدعاء للجميع بالعفو والعافية غير الطمطمة!
- حين ينكره، من كان يعرفه.. ويجهله، من كان خيره له، ولغيره! ويبقى يعدّ السطور التي سكبت من دمع قلبه، ماء عينه.
- حين يفتش في الأسماء، ولا يجد اسمه، حين يفتش في الوجوه، ولا يجد وجهه!