في العيد تبدو الوجوه التي غابت، والتي توارت خلف جدران البيوت البعيدة، تقفز أمام عينيك كأنها القناديل المضيئة، وتثب عند ناصية الذاكرة، زاهية مرقشة بألوان زمن جميل اختبأ في معطف الأيام والأحلام، وأنت تسير في الزقاق القديم ترى أولئك الأفذاذ النبلاء من رعيل عمرك الذاهب في ثنايا الوقت، الرابض في أعطاف القلب كأنه النجيع المهرق في أوعية ساخنة، فتذوب أنت المعنى، والمشدود إلى صور ومشاهد، وأحداث مرت كانت تلمع في لياليك الطفولية، بعفوية الطير، وبراءة الكائنات الحالمة بندى الصبابات، وقطرات المطر الناث على وجنات هي أنعم من وريقات التوت، وأبهى من خيوط الشمس، وأزهى من لجين الليالي المقمرة.. تتذكر، وتستدعي من الذاكرة دفاتر أيام كانت تحمل في طياتها زهرات العمر، وأيقونات الشباب، واليوم والعيد يطل من نافذة العمر المبدد بين النسيان والتذكر، تحاول أن تقلب الصفحات، وتتوقف عند عناوين مبهرة، عندما تقرأها تشعر وكأنك تفلي شعيرات لحيتك، وتفند البياض الناصع وتمسك بالسواد النادر، فتذرف الدمع مدراراً، لأن في بياض الشعر، صقيع أيامك، وكل ما مضى وكل ما انقضى، وكل ما تمادى في الغي كبراً.
في العيد تشعر بأن ذلك الطفل الذي كان يصحو باكراً، ويغسل محياه الباسم ثم يرتدي الجلباب الأبيض، فليمسك بيد صاحبه ذاهبين إلى مصلى العيد، وفي جيب الجلباب يكمن صوت مفرقع، يدوي في ضمير الطفولة، منذراً عن شروق شمس مذهلة تهدي الطفولة صباحاً مدهشاً، ثرياً بعيدية العيد، وابتسامة المرأة النجيبة والتي خبأت في محفظتها القديمة، هدايا اليوم السعيد واقتعدت مسنداً عند طرف الخيمة، في انتظار عناقيد الصبا، ليأخذوا منح الحياة، وفرحتها والابتسامات العريضة ترقص على وجنات أرق من زبدة اللبن، أولئك الصغار الماهرون في صناعة البهجة، الأذكياء في جلب السرور، في أجمل الصباحات، وأنبل الأيام.
في العيد لا تحضر إلا الطفولة، والأصدقاء، والأحبة الذين أفلت نجومهم، وغابت أقمارهم، وتلاشت شموسهم، وذابت أحلامهم في محيطات الاغتراب، ولم يبق سوى الصور، ولم يبق غير الأثر، ولم يبق إلا الدمع المنهمر.
في العيد، تفاصيل صغيرة، تحط رحالها عند الجفنين وترفرف بأجنحة اللواعج المسهبة في الحنين، حنين إلى ماض لم يطو عباءته ولم يغادر القلب، لأنه مثل تلك السدرة العريقة، جذره في الفؤاد، وفروعه في السماء.