في ستينيات القرن المنصرم مخر بوم عباب البحر، حاملاً شباباً وشياباً وغيرهم، في رحلة تنتهي على شواطئ الكويت.. رياحٌ تهب على السفينة فتميل بها في اتجاهاتٍ تتحدى المعرفة، ولكن نواخذة تلك السفن كانوا على قدرٍ من الوعي والحنكة، ولديهم ذكاء مَـكّنَهم من التأقلم مع جميع الظروف، ولاسيما ظروف الاغتراب وتفاصيل العمل. ومن بين هؤلاء الركاب كان بالخير بن عبدالله، فتى في مقتبل العمر احتقن وجهه بعنفوان الشباب، وكان له «زند يمشي عليه التيس»، ذهب ليفرغ تلك الشحنات فيثبت رجولته وكفاءته وجدارته وليكد ويكدح فيكوّن نفسه، وعلى ظهر تلك السفينة تعرف على شاب في مثل سنه يدعى جمعة، فأصبح لا يفرّقهما شيء سوى النوم، الذي كانت تختطفه أمواج البحر عندما يغص بعظام الأسماك، عندما وصلوا الكويت تخيلوا أنفسهم كرجال إعلانات الشكولاته «باونتي»، الذين كانوا كما يقول الإعلان يبحثون عن الجنة!
عملوا في الكويت حتى اكتشف النفط في الإمارات، فعادوا معاً في سفينة بخارية جعلت طريق العودة أقصر بكثير عن سيرهم في الاتجاه الآخر، وفي منتصف الخليج قال جمعة لبالخير: «لن نجد رجلاً أفضل منك.. لدي ابنة أخت وأودك أن تصبح زوجاً لها»، تبسم الوسيم وقال له: «أبشر.. تم»، وما هي سوى أسابيع معدودة من عودتهم حتى عُقـِدَ القران، وبعد ذلك بـ583 يوماً ولدت زوجته فأنجبتني. مرت السنون وبعد 6 سنوات من ذلك جاء فوج من الأصدقاء الكويتيين لزيارة بالخير في منزله، فعزفوا العود ودقوا المروايس وتناسقوا في التصفيق، وزفنوا وكأنهم على ظهر سفينة الغوص، وعندما أفرغوا ما بداخلهم من شجن وشوق إلى الأيام الخوالي رحلوا، وخبأ أحدهم هدية كتب عليها للعيال. في تلك السنة التحقت بالمدرسة التي أسستها دولة الكويت، فتعلمت القراءة والكتابة والحساب من مناهج التربية والتعليم الكويتية، وألبسونا الزي المدرسي، وتابعوا علاجنا وتطعيماتنا في الصحة المدرسية والمستشفى الكويتي، وفي الكويت كتب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي «حفظه الله»، الأبيات التالية:
أحب الكويت حب العاشق الولهان قلبي المولّع هواها من صغر سني
وأحب الكويت حب الشاعر الفنان فيها المعاني أغان صاغها فني
جابر بناها وعلا صباح البنيان مكرم رجاله بلا ضيم ولا منّ
بالعزة والجود والإحسان والإيمان وعلى شرف الكرامة ما خطى ظني.
للعارفين أقول: هذه هي الكويت قَـبَسُ الخليج العربي، أنارت دروبنا وعمرت بيوتنا، وعندما أعطت أجزلت العطاء، رحم الله الشيخ صباح الأحمد الصباح وطيب مرقده وثراه، وحفظ الكويت وشعبها الكريم، والله يقدرنا على رد الجميل والجمايل.