في الحياة، وجوه تصادفها مثل النسيم، تمر عليك، تهفهف بأوراق ربيعية، تلونك بلون الورد، وتضع على قلبك باقة زهرية، بعطر السماء الصافية، ونداوة الغيمة الغافية عند شغاف الأشواق الأبدية. تمر عليك وجوه، وتستدعي تاريخاً وأياما، وأحداثاً، ومواقف ودموعاً، ولوعات، وخفقات، وهمسات، مرت على مسامعك، كأنها الحلم، لكنك لا زلت، تستذكر وتفتح كراسة الزمن لتجد أن الأشياء، كما هي لم تتغير، لم يتبدل شيء، ولم تتحرك تلك الزقاق القديمة من مكانها، على الرغم من سفرك الطويل. وجوه تمر في طريقك، تلفت نظرك إلى تفاصيلك الصغيرة التي نسيتها في أدراج الذاكرة، يوم ظننت أنك سوف تهملها، لأنك لست بحاجة إليها، أو ربما تفكر في شأنها، اليوم، تجد نفسك، هنا، في وسط المحيط، تطالعك، هذه الوجوه، وكأنها تريد أن تقول لك، ألم ينضج الرطب، ذلك الذي تركته، في العناقيد، يتدلى، ليرسم لوحة تشكيلية ما مرت بخلد فنان، ألم يعد البحر مهيئاً لاصطياد تلك الزعانف المرفرفة، عند سواحل القرية القديمة، وربما أصبحت كل الأماكن ترتدي حلتها العصرية، إلا هي لم تزل تختبئ تحت الثوب العتيق، وتخضب الكفين بحناء الأشواق القديمة، وتحلم بعودة المسافر إلى موئله، لتحتفل الأشجار، والطيور، في البيت، لعودته، بسلامة الله. وجوه أحلى من السكر، وأشهى من ماء النهر تمر عليك، تأخذك إلى مناطق سهلية مزروعة بالتين والزيتون، وما جاشت به خواطر السنين، وجوه مثل أحلام ما قبل الكهولة، وما بعد الخروج من كنف الدفء الأمومي، هنا أنت تسكن، وهنا أنت تلتئم مع ذاتك، مع أيامك التي أفلتت منك، وغادرتك صورها الرائعة، حياتك هنا التي هربت منها سعياً وراء سمكة هاربة في أحشاء المحيط، حياتك تلك التي غادرتها وأنت لا زلت في ريعان عجزك، لكنك غادرت، وغيبتك السنون، خلف ملاءات داكنة لا فيها ثقب، يجعلك ترى عالمك كما هو، لا كما تريد. في الحياة وجوه تصادفها، مثل الهواء المحمل بالغبار، تسد أنفاسك تخنقك، تخطفك إلى مناطق نائية، وتضعك في اللون الرمادي، تحاول أن تتشبث بالهواء الطلق، لكن الوجوه، تمنعك تقف دونك، ولا تجد سوى عتمة ليلية، لا ترى حتى نفسك، لأنها وجوه قاتمة إلى درجة العدمية، وجوه خرجت من غبار السنوات، ومراياها القديمة، لم تزل تحتفظ بالشحوب، وتشققات أزمنة الأحلام المبتورة، وانحرافات الرؤية. وجوه ووجوه، اختلاف في المعنى، وتمايز في التعاطي مع الحياة، والحياة مثل تختلط فيه الأحياء، ما بين الجميل، والقبيح.