تستوقفني كثيراً تلك الجمل التي تحمل مترادفات متناقضة، استخدمها بكثرة فيما أكتب، فهي تعبر بواقعية عن حقيقة الأشياء المتشابكة حولنا، إذ ليس هناك معنى واحد دقيق لأي حالة، فعادة ما يجتمع عدد من المعاني المتناقضة وكذلك المشاعر المتناقضة في شخص واحد، أو في حالة واحدة بل وحتى في اللحظة الواحدة؛ وهي حالات مستمرة غير أننا لا نلتفت إليها، رغم أنها لافتة جداً ومحرضة للتأمل والتفكير والبحث. كما أن بعضها يبدو شهياً، مغرياً للتورط فيه، كحالة «الروابط المتحررة».
كيف يمكن أن تكون روابط، وأن تكون متحررة في الوقت نفسه؟ فالروابط -كما نعتقد ونعرف- تسير ضمن نظام يخضع للحقوق والواجبات وفق حركة التزامات معروفة سلفاً؛ أما أن توصف بالتحرر، فهذا يلغي صفة الربط التي هي حال في الوقت ذاته! على مستوى العلاقات الإنسانية يبدو هذا التعبير مخالفاً تماماً للطبيعة التي اعتادها الناس، كما أنها قد تكون محل استهجانهم كون الآخرين ‏يرونها دعوة تدفع إلى شكل من أشكال الفوضى في العلاقات الإنسانية غير السوية!


في الواقع المعاش، هناك أنواع من العلاقات التي تدخل بين الجلد والعظم، وفي الحدود الدقيقة بين الحب وغيره من العواطف الجميلة الأخرى، في هذا النوع يبدو طرفا العلاقة غير قادرين وغير راغبين بعبور الحدود، وكذلك غير نادمين عليها؛ هذا النوع من العلاقات لا يفهمه الكثيرون من الناس ويجدونه مربكاً؛ ليس ذلك وحسب، بل قد يحاربونه، كونه لا ينسجم مع المنظومة المتعارف عليها والخاضعة لحدود المسؤوليات.

يقول بورخيس: «الكتاب الذي لا يقدم نقيضه.. يعد ناقصاً». والحقيقة أن الحياة كلها بدون هذه التناقضات والتباينات لا حياة فيها؛ ومن لم يرَ إلا ما توافق معه واتفق، فليعلم أنه فوت الحياة من حياته. فالملاءمة الكاملة والتوافق التام والانسجام غير المشوش يبدو مصطنعاً مسخاً عن طبيعة الأمور؛ لأن طبيعة الأشياء تحمل الضدين، وبدونهما لا تكتمل الصورة.
للمبدعين قدرة على استخلاص حالات جمالية لا متناهية من التناقضات المحيطة بهم، فبين العالي والمنخفض والغامق والفاتح والحلو والمالح وحتى الحب والبغض، تتفتح قريحتهم وتتألق حواسهم، ومن بين هذه التناقضات تولد إبداعات غذت الحضارة الإنسانية؛ فيما أنشأ هذه الحضارات من نجح في صهر كل التناقضات في نسيج بكل ألوان الحياة.