في رمضان كل الجوارح، تسكن وتركن ولا تحن، إلا القلب وحده الذي يصحو وينهض من تحت ركام الأيام ونفايات الزمن، ويطرح أسئلته الوجودية، ويفتح نافذة علامات الاستفهام، ليرى ماذا يخبئ الصوم الطويل تحت غشاء غيمته، ويمضي في الأسئلة، يمضي في السفر البعيد نحو غايات الكون وما يفشيه من أسرار وأخبار وأسبار، وماذا يكون للصوم من فعل وقول في الذات. في رمضان، تحتفي النفس المطمئنة بهذا الملكوت الواسع الشاسع، الممتد في الروح والجسد، الممهد في ثنايا العقل، البعيد القريب من القلب، الناهل من صبابات موغلة في الأعماق والأغوار والأدوار، كل ذلك يحدث ونحن ما زلنا نبحث عن مكان في الأرض، كل ذلك يحدث ونحن نسأل عن كينونة غابت من أمد بعيد، في معمعة التحليق في فضاءات أبعد من السماء أقرب إلى الأرض، لا نعلم من أن القلب وحده الأقرب إلى الله من أي عقل مهما بلغ من عبقرية وجبروت وقوة خارقة. في رمضان، يبدو أن القلب هو القرطاس، والقلب، وهو النون وما يسطرون؛ لأنه المضغة الأولى التي تحركت باتجاه النشوء والارتقاء قبل العقل، قبل ما سطرته العبقرية العقلية، القلب وحده الذي جاء من الفطرة من غير معارف ولا نظريات، القلب الذي جاء من كينونة الفطرة، صنع إمبراطوريته العظمى من دون ضجيج أو عجيج، القلب وحده منح الإنسان القدرة على الحب ليحتوي العالم من دون أنياب ولا مخالب، فقط كل ما فعله هو أنه مد الظل نحو المشاعر وأعطاها قدرة الانتماء إلى الطبيعة، ونحن جزء من هذه الطبيعة، نحن من وإلى هذا المخلوق العملاق الذي نطلق عليه اسم الكون. في رمضان تنهض تجليات الروح، وتذهب إلى النهر لتغتسل من غبار السنوات، وتتطهر من سعار حروبنا السياسية، وصراعاتنا الأيديولوجية، ونكباتنا التاريخية، وأوهامنا وأحزاننا، وبكائياتنا، وخيالاتنا التصورية. في رمضان، ربما يكون الضوء أكثر إسفاراً، والصفحات التي لطخناها بالأسود الدامس أكثر وضوحاً، والكلمات المغلفة بالغموض أكثر فصاحة وبلاغة، لأن رمضان لا يقبل القسمة على ثلاثة، هو واحد في صفائه، ونقائه، وعبقريته، في رفع الفاعل ونصب المفعول به، هو هكذا رمضان يأتي من زمننا الجميل، لا يكل ولا يمل عن الإفصاح عن مكنونه، وعن التبيين من دون تضمين، إنه شهر البيان والاستبيان، وكشف الحساب لمن يريد أن يفتح دفاتر الزمن من دون هروب إلى الأمام، وهو مغمض العينين، وزم الشفتين، وتحجيم قدرة الأذنين.