«إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور» عميان يغوصون في الطغيان، ذاهبون إلى مدى أبعد من السياسة، أقرب إلى الوجدان، المغول الجدد، يجوسون الديار، يسفون ويسفهون، ويشوهون، وينسفون ويخسفون، ويكسفون، ويمارسون فعل الضواري، على أرض حباها الله الإرث الطيب، فلم يسلم من أذاهم زرع ولا ضرع، بشر ولا شجر ولا حجر، لأنه الحقد المؤدلج بالغوغاء، والعشواء والشعواء والبلواء، حتى أن فيلسوف الشعر، وشاعر الفلاسفة، يُجز تمثاله على مرأى ومسمع من المعضلة السورية، أبو العلاء الذي أبصر الشعر على يديه، ورأت الفلسفة الوجودية قصيدتها المثالية، بتمردها وتغردها، وتغريدها وتجريدها، وتسديدها.. فلم يكن أبو العلاء المعري قائداً ديكتاتورياً، ولم يختبئ خلف جنازيره ومعسكراته، لم يكن جابياً ولا حابياً، ولا نابياً، سابياً، ولم يكن هذا الشاعر الفذ إلا صوفياً بطعم الوجودية، قديساً بقرض الشعر، عاشقاً ببصيرة لوّنت الشعر بالحكمة، وزخرفت الفلسفة بالشفافية، لم يكن ذاك ابن معرة النعمان إلا الشاعر القابض على جمرة الشعر، بالتزام أخلاقي وقيمي وفلسفي، لم يكن ذاك المعني بالشعر سوى ناسك متعبد، في محاريب الفضاءات المترعة، بها حب الوجود، وبالكلي والعلمي، وما جاش في أفئدة المعلولات من نقائص وخصائص.
في الحرب العبثية، المعري يلقى حتفه، مجزوزاً محزوزاً، مغروزاً وكأنه مع هذه الفئة أو تلك.. المعري الشاهد في زمانه على الجهل، يرفع سبابته اليوم، ليقول الجهل هو الجهل، لا وسيلة له غير الفتك والقتل والظلم هو الظلم، لا حيلة له غير الوهم والهم.
واليوم في سوريا المحروقة، تفرق الدم بين القبائل، واختلط الحابل بالنابل، وكل يقول أنا ومن بعدي الطوفان.. فلا نبكي نحن على الأطلال، ومن يقتل طفلاً بريئاً أو كهلاً أو امرأة عجوزاً، فلن يعز عليه تحطيم أثر تاريخي وحضاري، ولكن ما نريد أن نشير إليه، أن في سوريا كما في سائر البلدان التي شهدت خريفاً عربياً، هناك برمجة لهدم كل أثر تاريخي، وهناك أجندة ترتب أولوياتها، من أجل محو كل ما هو مشع، وكل ما هو بعلاقة مع التاريخ العربي والإسلامي، وكل ما يرتبط بحضارة أمة امتدت لآلاف السنين.. ما حصل في أفغانستان من هدم للمعالم التاريخية، وكذلك العراق من سرقات يندى لها الجبين، تتصل بتاريخ هذا البلد العريق، كما أنه حصل في مالي البلد الأفريقي الذي يحتفظ بآثار تاريخية نادرة، كل هذا متصل بواقع سوريا، وما يتم تنفيذه في تهشيم الواقع الحضاري، وتفريغه من مضمونه، فالذين يقومون بذلك جماعات أو فرق أو نظام، إنما هم تضخموا إلى حد الانتفاخ الذي لا يريهم إلا أنفسهم، أما الوطن فيبدو في أعينهم أضعف من جناح بعوضة.. وسلسلة الهدم ستستمر ما دام الحقد بحجم الوهم الذي تعيشه جماعات العبث.



Uae88999@gmail.com