يا إلهي كيف سأهتدي، ونصف بصيرتي عمى، وجُلاس مائدتي دساسون للسم، والمنادي أخرسُ الشفتين وبائع ذمم. وكنا قد فتحنا كتاب الوضوح كي نصطفي من بين أنقانا قديرُ الجَلدْ. ورفعناه سيداً على ما لا يطاق، وعطرناه بالمنّه، وكسيناه شحماً فوق شحم. لكن أدهانا صار المداهنُ، ومن غير أن ندري، تخثر النهر الذي رويناه ليوم عبورنا. وغصة بعد غصة، خرج الكلام مراً ولم يستطب للعابرين. وصار علينا أن نرتجل ما يشبه ظل الحقيقة، أو حتى ما يقارب لحنها. قال أكبرنا رجاحةً: غداً بياضٌ قادمٌ فلا تغمضوا العين حتى لو غشاها عجاجها، ولا تسدّ أذنك أيها المصغي، فأنت حامل مشيمة النطق، وأنت غربال أقدار لا مناص لأصحابها إلا أن يسكنوا الزلزال، وأن تُرجُّ رؤوسهم رجاً لعل صوابها يستقيمُ. لم يقل الليلُ فصحته قمراً، ولا تدلى ضوء نجمته وقال اتبعوني. وما جرى، وما قيلَ بعد قيامة النهار، كان صمتاً ضج به الكون كله. بكت طفلةٌ، فانزعج ملاك الخدر. ومن رحم غيمةٍ سال تكُّ ساعات، وباح فم الوقت بأنه مقروصٌ، ولا يداويه سوى أن ينطق من درى، وأن تكشف امرأةٌ عن زند ماضيها، ويقالُ عن فتنة فعلها أنها حبلى بالدخان الصافي، وأن النسل الذي يتقاطر من تأوّه جرحها، سيكون فاتحة لرمادٍ كثير. ويا إلهي، كيف سأفرُّ من حبس قوسين وعطبُ المعاني أصاب أصابعي. هل أخضّ وهمي، هل أقول له استفق؟ أم هي الشرارةُ وعليّ أن أبلع ريقي على جنونها. وأن، لو كان ما أبغيه نصراً، أحمل الكلمات في طستٍ كي تستحم بها النار الصغيرة، النار التي قماطها لسان أفّاق، وجعيرُ أعراسها كمدٌ وكَبَدْ. وأن لا، لو كان ما أنويه درءاً للسهام، أُبالي بالنافخين على الجمرة في يدي. والأمر سيان، إن امتطيت الحفرة حصاناً، أم دفعتكَ شهوة الذات إلى السقوط في ملاذك. أو ربما أنقذتك جديلة ظلٍ ينتمي أسُّ قامته إليك. طِع الهذيان من أقصاهُ إلى تفتتهِ صيحة صيحة، وأنت جالس قبالة الفراغ تعضّ أقلامك، وتتكسّرُ في فمك صلابة الكلمة النافرة قبل أن تنطقها، ولا يعود بعدها شوكها يدمي، ولا حبرها الأحمر يكتب شيئاً سوى كرّ الذكريات المرّة، ونبش علّتها بتكرارها. ها أنا أمشي ثالثاً. مسبوقاً بيقين أن الحب آتٍ، ومتبوعاً بسرابٍ رجلٍ ماؤهُ الأمل.