الناس أحياناً يحملون نظرات خاطئة عن المدن، وإن لم يزرها أحدهم، وسمعها من محدثه قال، أو تواصى الأخوان على أنها مدينة فسق وفجور، وليل، وخمور، فالخير البعد والابتعاد عن بلاد الكفر والسفور، أو دخل في رأي جماعة النظرة الانطباعية أو الصورة النمطية. زمان كانوا يقولون لنا: إذا ما ذهبتم إلى أوروبا، فستقع النساء الأوروبيات في سواد الشعر، والملمح الشرقي، وسمار البشرة، ولما ذهبنا وجدنا من هم أسمر منا يشتغلون في محطات القطارات، وحين تذكر الدول الاسكندنافية وخاصة السويد، تجد المستمع إليك يبلع ريقه ويضحك، وينظر إليك بطريقة خبيثة على أساس أنه فاهم الوضع، وأن السويد بلد الإباحية والحرية الشخصية، بلد نساؤها يسفرن أكثر مما يسترن، والمتعصبون دينياً ينظرون إليها باعتبارها أساس بلاء وشقاء العالم. الزائر لهذه الدول، وبالذات السويد، لن يجد فيها ربع ما يتناقله الناس، ما يوجد في أي عاصمة عربية من طبل وزمر لن تجده في السويد المحافظة إلى حد ما، أما الدنمارك فمثل أي دولة أوروبية، ما عدا العاصمتين العربيتين لندن وباريس. أما النرويج، فأهلها ينامون عند أذان المغرب، بعد أن يعشّوا الدجاج، لأنه شعب مبكّر، ويحب العمل قبل أن يصقع الديك، في حين هلسنكي مثلها مثل أي جزيرة شمالية منسية، لا يوجد بها غريب، الكل قريب، ودينهم العمل والصدق. بعض المدن توحي لك بالكبر والهرم كدمشق وأثينا، بعضها الآخر يبدو كامرأة ترتدي جينزاً وفانيلة «تي شيرت» بيضاء، باريس امرأة تكبر معك، تبدو شقراء طويلة ترتدي «تايور» يضفي على جمالها أنفة ملوكية، أديس أبابا فتاة أفريقية كعود الأبنوس، تتلوى مثل الحيّات، حارسات كاهنة المعبد، نيروبي فيلة ضخمة، لها كل هذا العشب الأخضر في الغابة، مدريد غانية غجرية، لها تعتة السُكر والشِعر. هناك مدن تشعرك أنها رخوة كاسطنبول، وأخرى صلبة كصنعاء، بعضها طويل كروما، بعضها الآخر سمين محشو كبراميل «الفودكا» موسكو، مدن متنسكة، مدن لها طعم الغواية. مدن وقورة، مدن متصابية، مدن كدفء العجائز، تبقي المدن البلاستيكية، مدناً بلا ملامح، والمدن الزجاجية التي لا تعرف الشفقة. هل نقطع تذكرة سفر، ونحمل حقائب زائدة، نحو مدينة جوفاء، نتأبط ذراع امرأة جوفاء؟ أم نتأبط شراً لامرأة من عشق وجوى، لها كل هذا الوهج، وهذا الحريق، أم نطير مع أصدقاء هم ندماء الوقت والريح، سلاطين البحر والنوّ.. نساء كالمدن.. مدن كالنساء، وبينهما ينشطر العمر الهارب من فرحه لفرحه!