في الطريق إلى فهم الواقع العربي الراهن تصطدم بجدار سميك من الغموض، تحاول أن تستدرج التاريخ فتجده كسولاً لا يفضي عن شيء ذي معنى ودلالة. تنبش في الذاكرة، تجدها مزدحمة بالصور والمشاهد المؤذية للوجدان، تفكر لماذا نحن في هذه المنطقة المطوقة بقلائد ناصعة فقط الذين نعاني من روماتيزم المفاصل، فلا نحرك ساكناً باتجاه التطور ولا تطرف جفناً إزاء ما يحصل في عالمنا وكأننا نعيش في كتلة نارية تأكل الأخضر والأصفر.. عندما تحاول أن تستفتي الضمير عما طرأ واستجد وتفشى من خلايا جهنمية، عاثت وتفشت مثل إنفلونزا الطيور فأرهقت وزهقت وأراقت من الأعمار والأثمار حتى بدا عالمنا العربي مثل شجرة أسطورية بائسة مجردة من الأغصان والأفنان.. عالمنا العربي الذي تورمت رؤوسنا ونحن نقرأ عن تاريخه المذهل، واليوم يغادر التاريخ ويسكن بقعة داكنة، كطائر ملَّ النور، فاستمرأ الظلام، يمضغ تحت جنحة خيباته وهزائمه، ونكباته معطياً للعالم ظهره، وكأنه يود أن يرحل بسرعة فائقة إلى الأبدية الزائفة، ويقطن هناك مع الكائنات المنقرضة. دائماً ما نكرر لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس، ولكن مثل هذه العبارة، باتت مثل قماشة تالفة لا تغطي الجزء الأكبر من الجسد فتبقيه عارياً، تصفعه الرياح بقوة، حتى أصبح هذا الجسد عرضة لعوامل التعرية، التي مثل العظام الناتئة والضلوع البارزة و أعواد كبريت مطفأة.. فيا ترى هل التاريخ كان مجرد مزحة، أو نكتة أم أننا نحن الذين خرجنا عن دائرته وبقينا نطوف حول ديار سلمى، ونقبل ذا الجدار وذا الجدار، ونعيش فقط على ذكريات منتهية صلاحيتها.. وأكاد أصدق أن كل ما كتب في التاريخ، مجرد مسرحية هزلية، هدفها إضحاك الذين يحلمون بالأمل، مثلما يحلم الطفل الرضيع بصورة أمه، الذاهبة إلى دار البقاء.. أكاد أصدق، كل هذا وأنا أرى بلدانا عربية تتآكل مثل ألواح خشبية عفى عليها الزمن، وبلدانا عربية، غادرت منطقة الحياة، مندفعة إلى بدايات جاهلية مزرية، وبلدانا عربية، يتطاحن فيها البؤس العقائدي، وتتناطح الرؤوس، مثل الثيران الإسبانية، وبلدانا عربية، باءت كل محاولات إعارتها إلى الصراط المستقيم بالفشل الذريع. وأصبحنا نتذكر فقط أن في رقعة من تضاريس الأرض كانت هنا دولة وأصبحت الآن هشيماً ذميماً، والناس فيها يتداولون الأسى، بكل فجاجة.. كل ذلك تم في وضح النهار وبذريعة الحرية المشؤومة، والديمقراطية المكلومة، وحقوق الإنسان، المشكوك في ذمة من نادوا بها، وطرحوه كديدن للحياة.. كل ذلك حصل والشعوب فرحة، كفرحة الأطفال بالدمى المقلدة.