دخلتُ إلى مهرجان شعر بلا شعار. وراق لي الجلوسُ على آخر كرسي في الزاوية، ولذّ لي الاستماع إلى الشاعر الأوّل الذي تمادى في وصف النهار باعتباره (قيامة بيضاء مؤقتة)، وانهال مدحاً في شفاه امرأةٍ كان يظنها حبيبته الأولى، لكنها اُقحمت قسراً في قفص غراب ولفها السوادُ عمراً، ولم يبق منها سوى ريش ذاكرة هشّة. وفي القصيدة الثانية، تجرأ الشاعر على ذمّ السأم لكونه يُشبه النهر الأسود الذي يجرفُ الأفكار الخضراء قبل أن تُزهر، ويلوثُ مجراهُ بحر الاستنارة. وعلى الرغم من أن أحداً لم يصفّق له، استرسل في قصيدته الثالثة وكانت بعنوان (أرقصُ في كف عفريت) ومطلعها: أمشي حافياً على جمرٍ وفوقي غزيرةٌ أمطارُ المسامير. لكن القصيدة، على الرغم من الشؤم، تنتهي بصرخة فرح حين يكتشف الشاعرُ أن الجدار الذي كان يصدّه إنما هو مرآة قابلة للكسر بلكمةٍ واحدة. الشاعرة الثانية في المهرجان جاءت من الصحراء، ملابسها مثل خيمة عرس ولسانها نداءٌ بعيد. كلما رفعت يداً، دوّى صوت الأساور أعلى من قوافيها، وكلما نطقت بكلمة (الحب)، حلّقت طيورٌ زرقاء في الصالة وتناثر ريشها على الرؤوس. كان للكلمات على فمها وقعُ أجراسٍ تحركها الريحُ، وكانت المعاني مجرد آهاتٍ مخلوطةً بأنّات حنينٍ مستتر. في قصيدتها الوحيدة الطويلة جداً مثل شعرِها، نطق الرملُ سارداً سيرة القوافل في الفيافي، وتباهى الليلُ بعينهِ القمريّة، ورقصت النارُ في شتاءات العشّاق وهم يرتّلون صمتهم حتى ساعة الفجر. ومن مقطع إلى مقطع، كانت الشاعرة ترمي زهرةً بريّة على رؤوس جمهورها الذين تحولوا جميعهم إلى قطيع أشجار صفراء. الشاعرُ الكهل. بعكّازه الهشّ، ونظارته المشروخة. صعد إلى المنصّة ولم يطالع في وجوه الناس. وقف منحنياً وبدأ يصفّر ويغنّي همهماتٍ غير مفهومة. ثم رفع ورقةً ومزّقها، ثم أخرج من جيبه ورقة أخرى وأحرقها. ثم قال: كل الجهاتِ متاهتي والشعرُ بوصلةً وحيدة. تولدُ الكلماتُ نديّةً من صُلب الأقلام، لكن ثيابها تبلى في نهاية المساء، ولسانها يجفّ من العطش إلى حبرٍ جديد. وأنا، كلما أحرقتُ المعاني البالية، حاصرني دُخانها. وكلما مزّقتُ خيوط الشك، لسعتني عناكبه. جريتُ مثلكم على حبل التأرجح بين الضدّين، وما وجدت سبيلاً للنجاة من كليهما إلا أن أسكن في الشعرِ، مغسولاً كل يومٍ من معاني الأمس، متجدداً مثل شعاعٍ في مطلع كل شمس. Adel.Khouzam@alIttihad.ae