في البدء، في الزمان الجميل، كانت المقاهي، تجمع كبار السن، الذين يجلسون على الكراسي الخشبية، ويرشفون قطرات الشاي، مع أحاديث شقية تتألق على الشفاه بابتسامات أرق من حبّات الندى، وأشف من نظرات النوارس.. في ذلك الزمان، كان رحاب المقاهي، يرتادونها بعد مشقة يوم، وعناء حدب وجدب، كانوا كالجياد يستريحون على هضاب خشبية، يطالعون الفراغ الوسيع بعيون، يملؤها السغب والتعب، والعتب على ظروف أحلاها حر، وأمرها حلو، كانوا يواسون النفس، باختلاجات خواطر يحتشد فيها، الحنين مع الأنين، والشاي الساخن، يذيب ما تبقى من هشيم الكد والتعب.
كانوا يلملمون زجاجات القلوب في وعاء الجلسات الحميمية، ويصفدون المعاني بجمال الروح، وأناقة القلوب، ولباقة المشاعر الدافئة، المرتبطة طبعاً بنسيج التاريخ، وحرير الجغرافيا.
كانوا يحلمون كثيراً كما تحلم الموجات بأن تتعدى حاجز الرمل، لتسمع الآخر أغنيات البحر، وما شاب أعشابه من رفيف في الأعماق السحيقة.. كانوا يلفون المعاصم على الرؤوس ويحلبون الكؤوس الحمراء بشغف القابضين على رسغ الحياة، المستيقظين لما يجوس على سطوح البحر الزجاجية، عندما يكون البحر هادئاً، مسترسلاً في رسم أسطورته التاريخية.
كانوا يتحدثون عن البحر كثيراً وعن الصيد، ووفرة الخير في مناطق الماء الدافئة.. اليوم استبدلت المقاهي الوجوه، وتحولت الكراسي الخشبية، إلى أرائك وكبائن تثير الجدل، كبائن، أشبه بأوكار الضواري، تخفي ما تخفي من هنات القلوب وزلات النفوس، ووعكات صحية، أصابت ثقافة العلاقة مع المقهى كمكان لاستدعاء مشاعر الألفة، إلى مكان مزروع بألغام سلوكية تشيع الفزع.. المقاهي اليوم لا تتحدث عن البحر، ولا عن قضايا تهم الإنسان، مقاهي اليوم، ليست رداء التخفي وقناع السطو على المشاعر واستلاب ثقافة لتحل محلها ثقافة رمادية بلا لون ولا طعم، ثقافة برسوم كرتونية متحركة باتجاه أبعاد، أهمها توتير العلاقات الزوجية، وتأزيم المشاعر، إلى حد الاحتراق، وكم من أسرة دفعت ثمناً باهظاً جراء اكتشاف ما يخيب أمل الزوجة أو يصيب الزوج بصدمة تكسر العظم، عندما يرى ما يراه النائم من كوابيس.. مقاهي اليوم تنطق خارج النص، وتغرد بعيداً عن سرب ما ألِفه المجتمع من قيم وعادات.
لذلك لا نستغرب عندما نقرأ عن إغلاق 41 مقهى في إمارة عجمان وحدها، لأن هذه المقاهي مخالفة للشروط المنصوص عليها في عقود فتح المقاهي.. وما خفي أعظم وأعم، والحاجة ماسة، لرقابة أشد، حتى لا يختلط الماء الضحل بالماء العذب.


Uae88999@gmail.com