كنا في الزمان غير البعيد، نعشق الأبطال، ونتشبه بهم، سواء كانوا في السينما أو في الحياة العامة، فقد كان الزمان يفرض علينا أن نكون ''هابين ريح''، والحياة القاسية تتطلب منا أن نكبر باكراً، فجيلنا أو السابقون علينا لم يعرفوا لعب الأطفال ولا الدمى، فهي مقتصرة على البنات وألعابهن مثل ''الحيا والدرفانة''، حتى رياض الأطفال لم تكن متوفرة، الكثير منا دخل الصفوف الإبتدائية ''عقب ما طرّ شاربه''· الألعاب الوحيدة مثل الرشاشات والشرشار والشلّق والصوايات كانت تأتي مع شفايا الحجيج، لعبنا كله كان مبتدعاً من بيئتنا، فكنا نعتلي زور النخيل كفرس وهمي، وكنا نتسابق حفاة، حتى العجلات لم تكن غير: طوق دائري ندحرجه ونركض خلفه ''طوّاق''· وحين ظهرت السينما - وخاصة الهندية - تسمى بعضنا بأسماء نجومها وأبطالها الوهميين الذين يضربون ويتقافزون في الهواء، وتسمع ضرب ''البوكس'' من آخر السينما المكشوفة، كنا نفرح بملابسهم النظيفة وشعــورهم التي تصلق من ''الجل والكـــريم وحلّ الناريل'' نشرب ''جاهي حليب''، ونطير بخيالنا مع البطل حين يمسك يد البطلة، وحين يغني معها تحت المطر، أو حين يتراكضان بين الأشجار وحدائق الورود التي لا نعرفها· الغرام بالأبطال كان يجعل بعضنا يصنع سيخ حديد في طرفيه ''قوطيان'' مملوءان بالإسمنت، ويظل يحملهما كل صباح على الريق ليربي عضلات اليدين والصدر، ومن كان منهم مغرماً بالرماية بـ''أم سجبة'' تجده يسم يديه بأعقاب السيجارة ليصبح ماهراً في التسديد، ولكي لا تهتز يداه ساعة التصويب، هذا الوسم ''الداغ'' مازال بادياً على أيدي الجيل القديم، وبعضهم كان يبالغ فيه حتى يصبح حجمه مثل حجم الروبية الهندية· بعضنا فلح في هذا الأمر·· أذكر منهم ثلاثة أبطال حقيقيين ما يخافون، كانت أجسادهم تساعدهم على ذلك، أما أصحاب العصاقيل التي تشبه ''الزور''، فاكتفوا بالانضمام إلى فرق الأشبال والكشافة، أما أولئك الثلاثة فكانوا مبرزين في ألعاب القوى، كرمي القلة والرمح، وحمل الأثقال، فكانوا يظهرون عضلاتهم بلبس الفانيلات الضيقة وكانت ''الخكة'' بادية عليهم، واحد منهم كان يحمل ''كنديشن'' على ظهره، ولا يدري به، وكأنه حامل ''ربطة جت أو حزمة مسيبلو''، وآخر كان يضرب ''البليوت'' بقبضته ويخرقها، و''لا تعوره إيده'' أما الآخر فكانت له قبضة مثل ''قلة السح'' وجهه دائماً يدخن من غير سبب، والغضب يحل على ذلك الشارب الكثيف، الذي يتحرك إذا ما هبت عاصفة غضبه، كان يتصارع مع ''الباتان'' ويغلبهم، ومرة اغتاظ من نسيبه، فوجه له لكمة شلت نصف وجه النسيب، فخافت زوجته، ولم تستطع طلب الطلاق أو حتى تفكر أن تذهب إلى بيت أهلها· الآن·· وبعد أن تغيرت الحياة وكبرت أكثر منا، لا ''الداغ'' نفع في التسديد، ولا تلك ''القواطي'' الإسمنتية نفعت في تربية العضلات، ولا التشبه بأبطال السينما الهندية جعلنا أبطالاً ولو وهميين، فقط بقيت ذكريات الحياة الصعبة، والبسيطة، والاستيقاظ مبكراً لرفع ذلك ''السيخ'' الحديدي الصدئ على الريق·· أيه سقى الله أيام زمان!!