حظيت بفرصة زيارة كوريا الجنوبية أثناء مشاركتي في ملتقى أدب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية مؤخراً، يقام الملتقى للسنة الثالثة على التوالي في مدينة أنشون، ويهدف إلى تناول مفهوم الأدب العالمي من زاوية مختلفة عن الزاوية الغربية السائدة، يريد الكوريون من خلال هذا الملتقى تسليط الضوء على الأدب الخاص لهذه المناطق الجغرافية من العالم. في هذا الملتقى التقيت بكُتاب كثيرين، ولأول مرة بكاتبات من فيتنام، من يعرف شيء عن فيتنام سوى حرب فيتنام كما تصورها السينما الأميركية؟، تحدثت الكاتبات الفيتناميات عن هموم الكُتاب الحاليين في فيتنام، والتي تبتعد عن القضايا الوطنية الكبرى السابقة، بل تدور غالباً حول المشاعر الذاتية والإحساس بالوحدة أو السأم، والرغبة في إيجاد الذات، وأشعر كم يشبهني هذا الكلام، وأتأثر مجدداً بقدرة الأدب على التقريب بين البشر. كذلك التقيت بشاعرة من البيرو، وكانت تصر أن تلقي كلمتها بالانجليزية التي لا تتقنها تماماً، قائلة أن لا مترجم غيرها يمكن أن يعرف ما يدور برأسها، هذه المرأة تشبه إحدى شخصيات ماركيز، مختلفة، ومهتمة أن تحمل تراثها معها، وأتساءل كم هو العالم مدهش. لولا الملتقى ما الذي كان سيأخذني إلى كوريا الجنوبية؟ توقعت أن تكون الطائرة فارغة، وفوجئت بأنها محجوزة لآخر مقعد. حين سألتني أستاذة أدب كورية في لقاء على الغداء ما الذي كان يخطر ببالي حين أسمع اسم كوريا الجنوبية؟، قلت لها: “كوريا الشمالية”. فنحن لا نعرف إلا تلك المناطق التي تتداولها نشرات الأخبار، وهذه لا تتداول عادة إلا المناطق المضطربة، أتساءل ماذا نفعل بأنفسنا حين نقصر زاوية رؤيتنا للعالم عبر نشرات الأخبار البائسة، إننا نقيد أرواحنا بالهمّ والغمّ، في حين أن العالم مملوء بحكايات أخرى مشرقة، تبعث على السعادة لو نهتم أن ننصت جيداً، حيث الهدوء يسود. كوريا الجنوبية بلد يبني ولا يهدم، ولدى الكوريين الجنوبيين شغف خاص بالأدب والثقافة، فهي ليست قصة “سامسونغ” فقط. الكوريون شعب فاعل، هم لا يتحدثون كثيراً، فقط يفعلون ما يريدون قوله، ولديهم إيمان قوي بقوة الأدب، ولا يترددون في الإعلان عن هذا الإيمان بشجاعة، أتقصد قول “شجاعة” لأن العالم يضج بهدير حروب ماضية أو التهديد بحروب قادمة، فيبدو الحديث عن “قوة” الأدب في هكذا أجواء “كلام نواعم”، لكن الأدب “قوة عظمى” بالفعل. إنه يبنى جسوراً ما كانت كل جسور الإسمنت أن تصل إلى مداها. أتصور أننا يمكن أن نخاطب حتى سكان الفضاء بقصيدة عذبة. شفافية الإحساس يمكن أن تذيب الحجر وما يتمخض عنه. أتساءل متى نؤمن بقوة الأدب، متى يكون الأدب في مدارسنا مثل حصص الرياضيات والعلوم، وفي جامعاتنا مساوٍ للطب والهندسة، متى يكون كتاب أدبي بين أيدينا مشهد عادي متكرر؟، متى يصير حديثنا عن “آخر كتاب قرأته”؟، وأكثر شخصياتنا تأثيراً (كاتب نحب أن نقرأ له). والسؤال الأكثر توقعاً “ماذا تقرأ الآن؟”. الأدب لا يجعلنا أقل “علماً ومهنية”، هو لا يضيع وقتنا، كما يظن الكثيرون للأسف، الأدب يجعلنا فقط أكثر جمالاً، وإشراقاً، واستعداداً للعلم والحياة، وأكثر تقبلاً لاختلافاتنا، وما أجمل أن نختلف ونتشابه في الاحتفاء بهذا الاختلاف. هذا ما لمسته بوضوح في تلك التجربة الكورية. Mariam_alsaedi@hotmail.com