يمتلك العقل البشري ذاكرة قصيرة الأجل وطويلة الأجل، وتعتبر طويلة الأجل محدودة من حيث جمع البيانات، بينما قصيرة الأجل تمتلك قدرة على جمع كميات هائلة من المعلومات، وهذه المعلومات تساعد الإنسان على القيام بأعماله اليومية، وتسمى الذاكرة العشوائية. يتعامل الفنان مع الذاكرة العشوائية، بشكل مباشر، فهو لا يستطيع تخزينها للمدى الطويل، فيستخدم أدوات مختلفة مثل الكاميرا الفوتوغرافية، المسجل والفيديو لتخزين تلك المعلومات، ومن ثم استرجاعها للشعور بالزمن النسبي، وأقصد بالزمن النسبي القدرة على العودة للوراء عن طريق الذاكرة أي عن طريق الخلية الدماغية، فعبر الصورة والصوت يعيد تخزين تلك المعلومات لتصبح ضمن الذاكرة طويلة الأجل، فالفن في الوقت الحالي لا يعتمد فقط على ذاكرة الفنان المحدودة، بل يستخدم التكنولوجيا لتوثيق تلك المعلومات والأحداث، وعرضها بشكل صريح ومباشر. فالأداة المستخدمة عبارة عن عرض فيديو، صور فوتوغرافية أو حتى صوت يستمع إليه المشاهد، فتم درجها ضمن الأعمال التوثيقية، فهذه الأعمال تستطيع أن تخزن الذاكرة العشوائية، وتعرضها للفنان قبل المشاهد، فهو الذي عاين تلك المعلومات والأحداث، فهو الشاهد قبل المشاهد . تستطيع الذاكرة العشوائية أن تتحدث عبر الفن، والحديث الذي تقدمه لنا الذاكرة العشوائية الموثقة، حديث صريح وجاف، فالشاشة أو الصور الفوتوغرافية، التي يعرضها لنا الفنان، توقع الفن في دائرة الحداثة، أي أن الفن لم يعد عبارة عن أعمال فنية تشغل الفراغ، بل دخل ضمن الفنون التي تقاس بوحدة الزمن. الذاكرة العشوائية التي يقدمها لنا الفنان، تحتاج إلى ذائقة بصرية وبصيرة، فهي اللسان الناطق عن فلسفة وفكر المجتمع، وليس الفنان فقط، فهذا الفنان الذي أنتج لنا العمل الفني، خلية أولى في المجتمع، ولكن هذه الخلية الأولى قادرة على أن تطرح رؤية المجتمع لكثير من جوانب حياته اليومية ووجهات نظره، حول الواقع الذي يعيشه، وانطباعاته حول العديد من الأمور الاجتماعية، الثقافية، السياسية والاقتصادية. يضن البعض أن الأعمال التوثيقية، لا يمكن درجها ضمن مفهوم الفن التشكيلي، لأن التشكيل هو كل شيء يؤخذ من طبيعة الواقع، ويصاغ بصياغة جديدة، أي يشكل تشكيلاً جديداً، ولكن الأعمال التوثيقية لم يعاد تكوينها، بل طرحت كما هي، فالسؤال هل أخرج الأعمال التوثيقية من دائرة التشكيل أم أعيد تعريف الفن التشكيلي، ليشمل تلك الأعمال التوثيقية، في الواقع الفن لم يولد ليكون مطلق التعريف، بل ولد ليعرف الآخر بجوهر الحياة، وأن يعلمه كيف يتذوق الحرية دون قيود. science_97@yahoo.com