أشعر في خضم هذا السيل الجارف من (الشخابيط) الغنائية (بالواوا) والألم على أبناء هذا الجيل لما يسمعونه من كلام لا معنى له، ولا حلاوة فيه.. ونلاحظ جميعاً أن معظم (المؤدين) ولا أسميهم مطربين لأنهم (لا يُطرِبون) ينجحون ويلاقون تجاوباً كبيراً مع أغانيهم عندما يغنون أغاني لأم كلثوم، أو عبدالحليم حافظ، أو فريد الأطرش، أو وردة الجزائرية، وغيرهم، ومعظم هذه الأغاني قصائد شعرية بعضها يعود إلى العصر الجاهلي والأندلسي والأموي.

المستمع العربي يتذوق الشعر أكثر مما يتذوق النثر عموماً سواءً كان شعراً حديثاً أو تقليدياً.
وما نسمعه اليوم من أغاني الوجبات الجاهزة (كنتاكيات غنائية) سرعان ما يذهب طعمها إن لم يسبب المغص! (الأطلال، سلو قلبي، أقبل الليل، ذكريات، رسالة من تحت الماء، الكرنك، سمراء يا حلم الطفولة، قارئة الفنجان، بروحي تلك الأرض، يا غزالا من كثيب، عش أنت، أبحث عن سمراء، يبكي ويضحك، جَفْنَهُ علم الغزل، تعلق قلبي، يا جارة الوادي طربتُ... وغيرها) قصائد مازالت خالدة إلى اليوم.

المطربون العمالقة من (أم كلثوم، وعبدالحليم حافظ، ووردة الجزائرية، ونجاة الصغيرة، وفايزة أحمد، ومحرم فؤاد، ومحمد عبدالوهاب، وغيرهم) من الجيل الماضي، وماجدة الرومي، وكاظم الساهر، ومارسيل خليفة وأميمة خليل، وجوليا بطرس، وغيرهم من الجيل الحالي وظفوا (القصيدة) أي اللغة الفصحى توظيفاً رائعاً في خدمة فنهم، فأبدعوا أغاني مازالت وستظل خالدة. ومن أسباب خلود واستمرار أغانيهم جيلاً بعد جيل أنهم غنوا بالفصحى، فالقصيدة الفصحى صالحة لكل زمان ومكان، ويتذوقها الصغير والكبير، والأبناء والآباء.
حين نرى التجاوب مع القصائد المغناة ندرك سهولة وجاذبية القصيدة بالنسبة للمستمع العربي، ونجد أن أغاني القصائد تعيش أكثر فهي صالحة لكل زمان، ومكان.

عندما نسمع أغاني القصائد نجذب إليها، والجاذبية سببها الكلام الجميل، ولكن الصوت الجميل يضيف الجمال إليها ويلبسها ثوباً جميلاً.

القصيدة هي سبب رئيس في نجاح الأغنية، والملحن الناجح هو الذي يفهم معاني كلمات القصيدة بدقة فيحس بها بأوتار قلبه قبل عوده، ثم يأتي دور المطرب في نقل إحساس كاتب القصيدة، والقصيدة هي في الأصل لحن جاهز يحتاج إلى قالب مناسب فقط..

أبناؤنا اليوم يجبرون على سماع تُرهاتّ الأغاني، ضمن حصارٍ فضائي فضائحي (فيديو كليبي) يستولي على عقول وأحاسيس النشء من أبنائنا، ويضرب على وتر الغرائز، ويسطّح ويسفّه، ويستخف بالقيم والعادات والأخلاق، وفي خضم ثورة فوضى الفضائيات تسللت سلوكيات، وأفكار، وعادات و(موضات)، واختراقات (لفظية ومشهدية) غريبة عن مجتمعنا، يعدها أبناؤنا من ضرورات التطور، وهي في الحقيقة لا تمت للتطور الغربي بصلة، بل هي قشور الغرب.

الفن انعكاس لقيم المجتمع وأفكاره وثقافته، والأغاني جزء من الثقافة.. واللباس جزء من الثقافة.
الهيئات المضحكة (الكاريكاتورية) لأبنائنا ونحن نراهم في المراكز التجارية (المولات) من نتائج «عولمة النشء الخاطئة» أو بالأصح الفهم الخاطئ للعولمة لدرجة أصبح جيب البنطال أكبر من البنطال ذاته، والشَعْر كأشواك القنافذ، الشاب يطيل شعره، والفتاة تقصه! ولا تميز الشاب من الشابة ولا البيضاء من السمراء.
هذا الاستلاب للذوق والأخلاق والعادات من وسائل الإعلام غير المسؤولة ويجري على غفلة منا يستحق الوقوف عنده كآباء وأسر ووسائل إعلام مسؤولة عن مراجعة ما يتسلل إلى عقول وقلوب أبنائنا من تسطيح وتسفيه.



Esmaiel.Hasan@admedia.ae