تعمل جميع الحكومات في العالم على تعزيز ثقافة أن يكون مجتمعها متسامحاً من خلال الدعم السياسي للمبادرات والمشاريع التي تدعو لذلك، وسنّ التشريعات والقوانين التي تعاقب من يعلن عن أو يمارس أعمالاً  توضح بصورة علنية وبأي وسيلة متاحة تعصبه ضد الآخرين وعدم قبوله لهم لكونهم مختلفين عنه. وتعقد الندوات والمؤتمرات الداعية للتسامح وتؤسس المراكز والهيئات والمؤسسات الحكومية وشبه الحكومية والمدنية بغرض النشر والترويج لمفاهيم العيش في وئام بين البشر، وأن يتقبل بعضهم الآخر والإقرار بحق التنوع البشري في شتى مناحي وقيم الحياة، وأن لا يتحول الاختلاف إلى خلاف.
هناك جهود مضنية تبذل في عالمنا اليوم لنشر التسامح، ولكنها ليست جزءاً من ثقافة الشارع في كل المجتمعات، وليست أنماطاً فكرية تتبناها كل فئات المجتمع وتتعارض مع طبيعة ما يؤمن به سواد الناس، والذين تتغذى مجتمعاتهم في تفرّدها وتميّزها على كونها حالة خاصة وكونها مختلفة، وهذا الاختلاف هو سر تميزها وجزء لا يتجزأ من هويتها وما تعتقد به من تصورات مسبقة راسخة في الذاكرة لكل مجتمع، ولا تريد أن تخرج تلك المجتمعات من مناطق الراحة والسكون لكون الفرد فيها ليس وحيداً، بل جزءاً من المجموعة الأكبر التي تشاركه أفكاره وقيمه.
والناس على العموم تكره التغيير والاضطرار لتقبل فعل أمر ما فقط لأن القانون يفرض عليها القيام بذلك، وهي تراه أمراً اعتيادياً وحرية شخصية وليست جريمة تم فيها الاعتداء البدني على الآخر أو سلبه جزءاً من ممتلكاته أو حقه في العيش. ومكمن الخطر أن الناس في معظم دول العالم لا ترى أن الانحياز الأعمى والتمييز ضد المختلف قضية تستحق النقاش، طالما أن كلاً منهم يعيش في فقاعته الاجتماعية الخاصة به.
التسامح لا يقتصر على الأقوال، بل يتضمن تفاصيل المعاملة اليومية، ومنع السلوك العنصري، خاصة النظر بدونية تجاه الآخرين، ولهذا فرض التسامح أقرب إلى حمل الشخص على القيام بفعل هو في قرارة نفسه يؤمن بعكسه، خاصة عندما يتعامل وكأن الحياة الاجتماعية قائمة على الطائفية والتحزّب المنظّم وغير المنظّم.
وليس بالضرورة أن تكون الطائفية دينية أو عقائدية أو أيديولوجية، بل من الممكن أن تكون ثقافية وفكرية، واقتصادية وجغرافية وإثنية ومهنية وعلمية والقائمة تطول. ومن يعتقد أنه يعيش خارج النظم الطائفية في مفاهيمها الأساسية كسلوك بشري ربما هو أقرب للمثالية من الواقعية، وماذا عن الطائفية المؤسسية التي تمارسها بعض الدول وفق قوانينها وهياكلها المؤسسية وسياساتها العامة وأحزابها السياسية؟ ولذا يجب تناول ملفات التسامح وقبول الآخر ببعد فلسفي وعلمي شمولي.
غياب النهج العلمي من أهم أسباب عدم نجاح كل الجهود المبذولة في كل قارات العالم لنشر ثقافة التسامح وتقبل الآخر المختلف، وجعل التعايش السلمي هو في الأساس مفهوم سياسي بحت في العلاقات الدولية.. نهج يجب أن يتم تطبيقه في علوم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي والسلوكي والديني وهو بيت القصيد.
كل مشروع ناجح لابد أن يكون حجر الأساس فيه والبنية التحتية له مبنيين على نهج علمي رصين، والجمع فيه بين العلم والحكمة والأعراف والتقاليد، ومدخلات الدين والثقافة والسياسة والاقتصاد والبيئة، حتى لا يكون الطرح مبتوراً ومبنياً على العلاقات العامة والدبلوماسية الشعبية أكثر من كونه تحليلاً منطقياً لواقع وجذور التحدي.
والمضحك المبكي أن عدداً لا يستهان به ممن يعملون في تلك المنظومات والقائمين عليها في بعض الدول والمؤسسات الدولية أبعد الناس عن التسامح، ولا يتقبلون الآخر المختلف بعيداً عن أضواء الكاميرات، وربما يعتقدون بأفضليتهم لأسباب بيولوجية، ولذلك فمن المفارقات الأقرب إلى الطرافة في هذا الصدد أن يكون الداعي إلى التسامح غير متسامح في شخصه، لكنه مجبر على التسامح، وهو أمر يشبه «الشيزوفرينيا القيمية» وتأطير سرد كاذب، وتشكيل الكتل الإقصائية وما يسمى بـ «تحالف القيم»، وهو ما يضر بالتضامن الدولي ويعرقل التسامح العالمي.
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات