عندما أعلنت الحكومةُ اللبنانية برئاسة حسان دياب، في 7 مارس 2020، التوقفَ عن دفع الأقساط المستحقة من ديون سندات «اليوروبوند»، خسر لبنان «ثقة» الأسواق المالية ومؤسسات التمويل الدولية، وشهد انهياراً مالياً وتدهوراً كبيراً في عملته الوطنية التي خسرت نحو 95 في المئة من قيمتها، حتى انخفض الناتج المحلي الإجمالي تدريجياً، خلال 4 سنوات، من 53 مليار دولار إلى 18 مليار دولار حالياً.

وبسبب هيمنة المنظومة السياسية «الفاسدة» على الحكم، لم تتمكن حكومة نجيب ميقاتي التي شُكلت بعد استقالة حكومة دياب، وهي مستمرة منذ استقالتها بعد الانتخابات البرلمانية في مايو 2022 كحكومة لتصريف الأعمال، من معالجة أزمة ديون لبنان البالغة نحو 92 مليار دولار، موزعةً بين 61 مليار دولار بالليرة اللبنانية (على أساس 1514 ليرة لسعر صرف الدولار) و31 مليار دولار بالعملات الأجنبية لسندات «اليوروبوند».

وإذا كان الدين بالليرة قد تم «ذوبانه» نتيجة تدهور سعر صرف الليرة مقابل الدولار الذي تجاوز مستوى 90 ألف ليرة، فإن الخلاف يبقى على دين لبنان بالسندات، وذلك نتيجةً للفرق الكبير بين قيمتها الاسمية المحددة رسمياً وقيمتها الفعلية التي تخضع لمضاربات السوق المالية. وبلغة الأرقام، كان إجمالي قيمة هذه السندات، قبيل الأزمة مباشرةً، نحو 31 مليار دولار موزعةً بين المصارف المحلية بحصة 15 مليار دولار، ومصرف لبنان بحصة قيمتها 5 مليارات، فيما كانت حصة المستثمرين الأجانب نحو 11 مليار دولار.

لكن هذه «التوزيعة» تغيرت بتأثير تطورات الأزمة. ونتيجة تخوف المصارف المحلية من استمرار عجز الدولة عن الدفع، قامت ببيع سندات قيمتها نحو7 مليارات دولار بسعر منخفض للمستثمرين الأجانب، فارتفعت بذلك حصتُهم إلى نحو18 مليار دولار. مع العلم بأنه مع احتساب الفوائد يرتفع الدَّين المستحق على الدولة وفق السعر الاسمي للسندات إلى أكثر من 40 مليار دولار.

وبمعزل عن القيمة الاسمية التي ستسدد عند الاستحقاق، يتم تداول السندات وفق قيمتها السوقية التي تخضع لعوامل عدة، مثل تغير مستوى المخاطر، وتقلب عوامل العرض والطلب، أو حتى تبدل أسعار الفوائد. ومنذ إعلان توقف الدولة اللبنانية عن التسديد، وعدم مباشرتها أي مفاوضات لإعادة هيكلة ديونها بالعملات الأجنبية، سجلت السنداتُ انخفاضاتٍ متتاليةً في قيمتها، حتى وصلت إلى نحو 5 سنتات للدولار الواحد، أي 5 في المئة فقط من قيمة السند الاسمي، في إشارة إلى تضاؤل الآمال بالمستقبل الاقتصادي للبنان، وتراجع آمال بعض المستثمرين بقدرتهم على تحصيل نسبة وازنة من قيمة ديونه بالعملة الصعبة.

لكن بعض المؤسسات الأخرى، وبالتحديد صناديق التحوط المتخصصة بشراء السندات الرخيصة و«الديون المتعثرة»، ما تزال تعتمد على إمكانية السير نحو اللجوء إلى القضاء الدولي، وخاصة محاكم نيويورك التي تحددها سندات «اليوروبوند» كمرجع قضائي لبت الخلافات.

ويمكن أن يشمل ذلك وضع اليد على أصول مصرف لبنان في الخارج، بما فيها سيولته في المصارف المراسلة، وكمية الذهب الموجودة في الولايات المتحدة، وربما طائرات شركة طيران الشرق الأوسط. لذا ينصح الخبراءُ الحكومةَ اللبنانيةَ بعرض شراء سندات اليوروبوند بسعرها «المنخفض»، اليوم قبل الغد، وحتى قبل انتخاب رئيس للجمهورية، والبدء فوراً في مفاوضات مع الدائنين كخطوة إصلاحية، تتبعها إصلاحات تشمل حل قضية المودعين، وإطلاق إعادة هيكلة المصارف، وتوقيع اتفاقية نهائية مع صندوق النقد الدولي. وذلك في مسيرة طويلة على الطريق الصحيح لاستعادة «الثقة»، والسماح لعودة لبنان إلى الأسواق المالية العالمية، ومؤسسات التمويل الدولية.

*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية