ننطلق هاهنا من فرضية تُرجع القيم في أساسها إلى الحس الفطري في الإنسان الذي يسعى إلى التمييز بين الحسن والقبح، والذي يجعله الاطمئنانُ يرجح كفة الحسن على كفة القبح. فالبرّ، ليس سوى ما اطمأننت النفس إليه. ومن هذا المنبع الطّبيعي الأولي خرجت القيم الكبرى التي أسهمت في لحم الإنسان بأخيه الإنسان من أجل تحقيق العيش المشترك. ومن هنا يمكن اعتبار القيم العليا الشروط القَبْلية لقيام الفعل الأخلاقي، إذ لولا ها ما ميّز الإنسانُ بين الحسن والقبح ليختار التخلّق بأحدهما دون الآخر. ومن هنا وَلَّد التفاعلُ بين القيم الكونية والشّروط الاجتماعية لكل مجتمع ضروباً من قيم أصبحت سائدة في ذلك المجتمع، وأصبحت تستمد منها أخلاق أفراده، مثل القيم الثلاث المعلنة للثّورة الفرنسية: الحرية --المساواة – الأخوة. والقيم الثلاث المعلنة لدولة الإمارات: التسامح والسّلم والتضامن.
إن المبادئ الأخلاقية المطلقة يمكن أن تتغير من سياق إلى آخر. ومن هنا تتميَّز الأخلاق بطبيعة مفارقة، فهي من جهة تستمد وجودها من منظومة القيم الفطرية المجردة عن الزمان والمكان، وهي من جهة أخرى شديد الصّلة بالمجتمعات وأشكال التربية السائدة فيها، كما أنها شديدة الارتباط بالأطر النظرية سواء كانت فلسفية أو علمية، مما يمسّ الأخلاق بتغييرات تتفاوت عمقاً وجدّة. وفي تقدرينا فإن التّجدّد الأخلاقي لا يكون إلا ضرباً من تنزيل محلي للقيم الكونية، تتجدد الأخلاق كما يتجدّدُ البناء، فهي تبنى وتصنع انطلاقاً من النّموذج القبلي للقيم العليا الأولية.
يوحي الحديث الصحيح عن النبي الكريم الذي يقول فيه: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»[البخاري: الأدب المفرد/273]، بفكرة إمكان تجدد الأخلاق من جهتين:
أولاً جهة إكمال الأخلاق بالقوة وبالفعل معاً، وهذا مثّله العصر النّبوي الذي جدّد الأخلاق العربية ونفخ فيها روح كمالها البشري، ولعل أبرز مثال على ذلك ما كان يعرفه العرب من نصرة أخيهم ظالماً أو مظلوماً، فردّد الرسول الألفاظ نفسها، ولكن بمعنى أخلاقي جديد، فجعل نُصرة الأخ الظّالم بِحجْزِه عن الظّلم وكفّه عنه [البخاري: كتاب المظالم والغصب/2338]. ولعل «حلف الفضول»، الذي حضره الرسول قبل البعثة وأسهم فيه، وكان دائماً يَذكُرُه بخير وقد استوى بشراً نبيئاً، كان يجسِّدُ معنى عميقاً جدّده الرسولُ في قلوب أتباعه.
ثانياً: جهة التجدّد النّظري لهذه الأخلاق المكتملة بالقوّة والفعل، في ظل قيم إنسانية عليا أصلها في الفطرة وفرعها في العقل، وأغصانها في الحس والعاطفة والحدس. وقد أسهمت العلوم بعامة، والفلسفة بخاصة، في هذا التّجديد، مثال ذلك ما أعلنه سام هارس في كتابه «المشهد الأخلاقي» الذي نشره عام 2010 من «أنّ العلمَ التجريبي قادرٌ على الإجابة عن الأسئلة الأخلاقية»، فدافع في كتابه على التّسليم بضرورة الحكم الأخلاقي المطلق، وقد وجد لذلك مصدراً في «العلم التجريبي»، حيث اعتبر الصّلاح المعيشي، بمعنى السّلامة من الآفات، هو المعيار الأخلاقي المطلق، فمعيار الأخلاق هو ما يترك من آثار في الأفعال، وفي صلاح معاش النّاس. فحسنُ الفعل عنده يكون بقدر ما يجلب من المصالح العاجلة، بخلاف السّوء الذي ينافر الطبع ويكون نقصاً.
نعم، تتجدّدُ الأخلاق، لكنّ تجدّدها هو تجدّد تمام وكمال، تجدُّدٌ يظل مرتبطاً بالأصول العليا والقيم المثلى التي تعارفت عليها البشريةُ قبل أن يُدَاخلَهَا هذا التغيير الذي نعرفه اليوم في كثير من البلاد، والذي يوشك أن يبدّل طبيعة الإنسان وفطرته الأولى.

*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية