مع الثورة التكنولوجية العالية، والتصعيد الصاخب لخطاب السعادة، كتبت مقالاتٍ نقديةٍ عديدة طوال السنوات الثلاث الماضية في نقد ذلك الخطاب. وهنا أفرّق بين «نقد خطاب السعادة» و«طرح خطابٍ للسعادة»، فهي تجربة ذاتية، إنها مثل الحقيقة، لكل إنسانٍ تجربته في الوصول إليها، غير أن الترويج المتضاعف لخطاباتٍ منقوصة علمياً ومنهجياً لا يمكن السكوت عنه، وبخاصةٍ أن ضحاياه أناس لديهم مآسٍ وأحزانٍ وظروف شديدة التعقيد، ثم يأتي بدمٍ بارد من ينصحهم بشكلٍ وعظي عن طرق السعادة وأٍساليب الوصول إليها.

هذا ما انتبه إليه الفيلسوف براتراند راسل في كتابه:«السعادة والإنسان العصري»، الذي قرأتُه قبل أيام وهو كتيّب صغير وظريف وفيه لمعات وتأملات هي مزيج من التحليل النفسي، والاجتماعي، والفكري، والسياسي. بمئة صفحة لم يطرح راسل وصفة للسعادة وإنما طرح ما يمكنني اعتباره «العثرات» التي تمنع الإنسان من أن يكون سعيداً، فمن الاستهتار بمشاعر الناس أن يطرح أياً كان وصفةً شاملة يزعم أنها الطريق الكبرى الموصلة للسعادة، وهذا ما لم يفعله أي من الفلاسفة الحقيقيين.

من أشد العثرات أمام طريق التوازن الدنيوي كما يرى راسل:«الحسد»، لأنه يفقد الإنسان بشريته، فهو بحسبه:«من أقوى العوامل على الشقاء البشري، ولا بد من الاعتراف أيضاً بأنه من أعمق وأكثر المشاعر البشرية شيوعاً وانتشاراً». فهي عاطفة لكنها ارتكاسية، يضيف راسل أنه:«من حسن حظ البشر أن في الطبيعة الإنسانية عاطفة أخرى تحفظ التوازن وتعوض عن عاطفة الحسد، وأعني بها عاطفة الإعجاب، وكل من يتمنى زيادة نصيب الإنسانية من السعادة يتمنى لعاطفة الإعجاب الزيادة، كما يتمنى للحسد التضاؤل والانكماش، وإذا تركنا القديسين جانباً، وجدنا أن العلاج الوحيد للحسد لدى الشخص العادي هو السعادة، والإشكال الذي يصادفنا في هذا المقام أن الحسد في حد ذاته عقبة كأداء في سبيل السعادة... ولا يقف شر الحسد عند هذا الحد، بل يشمل ضرر الحاسد بنفسه فيشقى بحسده... ولو استطاع لجرد الناس من جميع مزاياهم».

ثمة فرق كبير بين التنافس والغبطة والتدافع البشري الخلاق، وبين الحقد، والحسد. في الأولى تتشجع البشرية على التنافس نحو الإنجاز والخلق والابتكار، وفي الثانية تحترق القلوب من أجل حظوظٍ تحركها عاطفة ارتكاسية لا تحرق سوى صاحبها.

الخلاصة، أن السعادة يمكن تناولها على ضربين اثنين من الناحية الفلسفية، الأول نقد خطابها الوعظي السائد المطروح لدى المبشّرين، والثاني في رصد عثراتها، أمن إيجاد سرها فهذا مستحيل وممتنع نظرياً، بدليل أنك إن سألت عشرة إخوة عن سر السعادة، فمنهم من سيقول لك الصحة، والآخر الإنجاز، والثالث الطعام، والرابع السفر، ولكن إن سألتهم عن عثرات السعادة فسيصلون إلى نقاطٍ مشتركة، وهذا هو بيت القصيد من كتاب راسل المفيد والبسيط والذي عرجت عليه في هذا المقال.

*كاتب سعودي