شغل الجانب النفسي حيزاً كبيراً من عناية الإنسان واهتمامه، إذ مثّلت الروح إلى جانب الجسد ركيزة دائمة طالما تاق الإنسان لإشباع احتياجاتها دون نقص أو تقصير. وفي التركيز على الجانب النفسي، نجد أنه لطالما ارتبط بالتوجيهات ذات الطابع الديني الإيماني، استشعاراً لأهميته الوظيفية التي يحققها من خلال سد تعثرات الحياة وتقويم تعرجاتها، طلباً للاستقرار والسكينة النفسيين.

ومع أن إرجاع الأعراض النفسية كافة للجانب الديني، ومحاولة قياسها إيمانياً، يعتبر أمراً فيه كثير من المحاذير، فإنه حاز نسبةً واضحة من الاهتمام والمعالجة، لا سيما من منظور العلاقة بين الطمأنينة السيكولوجية والرسوخ الإيماني.

والتدين عميق الصلة بالدين، ومعناه التزام الطاعة والاستسلام لمشيئة الله تعالى، وفي المدلول الاصطلاحي يدل التدينُ على التمسك بعقيدة ما والالتزام بفحواها واحترام ما جاء فيها على صعيد القول والعمل. وقد ارتبط بهذا المدلول الكثيرُ من الأحكام اللصيقة بالفرد ولم تفتأ تدعم الاستقرار النفسي لدى الإنسان، ما يعني ارتباط مكونات الإنسان المذكورة آنفا وتأثرها ببعضها البعض، الأمر الذي وعاه وأدرك حتميته الفلاسفةُ أمثال أوغست كونت الذي بدأ فيلسوفاً وضعياً ثم انتهى بالدعوة لدين «الإنسانية».

وبغض النظر عن التحفظات المختلفة على فهم المجتمع المغاير لمعنى الدين والتدين، فإن الحاجات والميول الفطرية وجدت ملامحها بجلاء بالغ في العقائد الدينية، ومن هنا أقرَّت حتى الفلسفاتُ المادية، مثل الماركسية، بضرورة إيجاد سلطة عليا، وإن اعتبرتها «دولة البروليتاريا» كمصدر قطعي غير قابل للنقاش والمساومة! إن الحس الديني يعكس حاجةَ الإنسان للخضوع، تماماً كحاجته للحرية والشعور بالكرامة الإنسانية.

وفي حين تمثل حقوقه ميزاناً للتعامل بينه وبين بني جلدته، فإنه بخضوعه لما هو أكبر منه في القوة والقدرة والعلم يرسخ كينونتَه وضمانَه الوجودي بشكل سليم. وفي السياق ذاته نجد تعليلاً واضحاً للغوص الإنساني في عالم الأساطير وانشداده للخرافات، وبخاصة في طور محاولاته لملء الفراغ العقدي الذي لا يمكن للنفس البشرية احتماله، بل إن هناك من الحضارات -كالإغريق- مَن فسرت البناء العقلي على قسم منطقي، وآخر أسطوري حتمي، وهو ما توازيه الأديان السماوية بـ«الإيمان» الذي يسمو ويرتقي بالوجدان الإنساني لمساحات بعيدة كل البعد عن ترهات الخرافة والأساطير.

ولعلاقة الإنسان مع روابط التدين محدداتٌ تلعب دوراً مهماً في تثبيت الصحة النفسية و«الأمان السيكولوجي»، ولصالح استشراف «التدين الآمن»، وهذا ما تحدَّث عنه «كينيث بارجامنت»، أستاذ علم النفس وخبير الشؤون الدينية والصحية، حين قال: «يبدو أن الأفراد يتمتعون بمزايا ملحوظة عند اتباعهم نهجاً مُحباً وطيباً في تصور الغيب، بالتوازي مع شعورهم بدعمه لهم، لكننا ندرك وجود جانب آخر للروحانية».

النزوع النفسي للدخول في «علاقة حب» مع الشعور الديني والالتزام المحيط به، يمثل ضرورةً لا يمكن للإنسان الاستغناءَ عنها. وهذه الضرورة لم تتحقق لدى كثير من ضحايا الانتحار الذين عاشوا فراغاً نفسياً وروحياً لم يجد ما يشبعه، خاصة في أوروبا التي عاشت حالةً من اعتناق الإلحاد، ما يؤكد أن الإنسان كائن متدين بامتياز، وعلى ذلك يشهد التاريخ ومجرياته.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة