برغم من الزخم الإيجابي الذي تحظى به الدراسات المستقبلية كجزء من علم السياسة في هذه المرحلة من مسيرته، إلا أنه توجد أفكار تحاول أن تضفي وضعاً سلبياً عليها.

من هذه الأفكار القول بأن دارسيها أو من يُطلق عليهم المستقبليون يحاولون معرفة ما سيحدث في المستقبل، لكنهم فشلوا في ذلك. لكن الحقيقة غير ذلك، فالمستقبليون يحاولون تحديد وفرز أحداث من الممكن لها أن تقع في المستقبل، بمعنى أنهم يطرحون أفكاراً في شكل أقوال تشير إلى ما يعتقدون بأنه من المحتمل له أن يحدث إذا ما سمح للأنماط السائدة الجارية الحدوث بالاستمرار وهي تسير على ما هي عليه. وهنا فإن المستقبليين يعتقدون بأن طرح أفكار توضح بأن أمر ما سيحدث حتماً في المستقبل هو بشكل عام أمر شبه مستحيل فهو قد يقع وقد لا يقع مستقبلاً نظراً إلى أن القرارات الإنسانية هي التي تحدد المستقبل وهي التي تغيره، وإلى أن العديد من قضايا عدم التيقن هي أمور موروثة في الحياة البشرية. فكرة أخرى خاطئة تشير إلى أن النظر إلى المستقبل والتخطيط طويل الأمد له هي أمور صالحة للدول والحكومات والأعمال التجارية الكبرى فقط، لكنها غير مفيدة للأفراد في حياتهم العادية.

وهذا طرح غير صحيح على علاته، فالنظر إلى المستقبل والتخطيط الفردي له، يساعد البشر العاديين على رسم خارطة طريق مفترضة لمستقبلهم العملي ولحياتهم العادية وفي اتخاذ قراراتهم الخاصة بالجوانب المالية، وهي أيضاً تساعدهم في تحديد كيف يستثمرون أموالهم وأين يسكنون إلى آخر المنظومة المعيشية. إن التخطيط الفردي المستقبلي يخبر البشر عن الحقول التي ستوفر لهم فرصاً جيدة للعمل، وعن ما هي أنواع الأعمال أو الأسهم التي يستثمرون أموالهم فيها. لذلك، فإن الأفراد يمكن لهم الاستفادة من التخطيط المستقبلي في كل لحظة، من مساعدتهم على اتخاذ القرارات المصيرية الكبرى نزولاً إلى أبسط أمور الحياة اليومية.

وتشير فكرة خاطئة أخرى إلى أنه من غير المفيد التفكير في المستقبل لأننا لا نستطيع القيام بشيء حياله، وهذا أمر خاطئ جداً، فالمستقبل هو الجانب من الزمن الذي يستطيع الإنسان على صعيده القيام بأشياء مفيدة ومؤثرة، فالماضي قد ولى وانتهى، والحاضر يحدث وبات من المتأخر القيام بتغييره، لكن القرارات التي تتخذ الآن يمكن أن يكون لها تأثير على المستقبل. وبالإضافة إلى ذلك يمكن للبشر القيام بالكثير حول الأمور الأكثر بعداً، والتي لها تأثير في المستقبل أكثر من قدرتهم على القيام بأشياء تؤثر على المستقبل القريب. ويعود السبب في ذلك إلى أنه يوجد لديهم المزيد من الوقت للقيام بأشياء يريدون القيام بها.

ومن جانب آخر، البشر قد لا يكونون مدركين لطرق استباق المستقبل وقراءته، لكنهم جميعاً، وفي سياق نموهم يتطورون ويطورون لأنفسهم وسائل وطرق شتى من أجل التفكير في المستقبل والبناء له. إن معظمهم يستخدمون تلك الوسائل دون أن يكونوا مدركين بوعي ما يقومون به. لكن المستقبليين في المؤسسات البحثية يستخدمون الوسائل التي هي في الأصل مستخدمة من قبل البشر العاديين، لكنها تكون في نسيج أكثر كفاءة وصقلاً من الناحية التقنية.

وما نشير إليه هنا هو تأكيد بأن انشغال البشر بمستقبلهم ليس بالأمر الجديد، لكنه ملازم للإنسان منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها. إن البعد المستقبلي مرافق لصيق لفكر العلماء والمفكرين والفلاسفة وأصحاب وجهات النظر والرؤى منذ فجر الحضارة البشرية إلى جانب البعدين الآخرين للزمن وهما الماضي والحاضر، كما نشير أعلاه، فيتضح مما تقدم أن إحدى النتائج الحتمية للفكر الإنساني الحديث هي أن يتطلع المفكرون نحو المستقبل، وكأن الزمن يتركز فيه. لقد أصبح النظر في المستقبل ومصير الإنسان والمجتمع البشري هما الشغل الشاغل للمفكرين والفلاسفة وعلماء العلوم البحتة.

لقد وجد جميع هؤلاء أن دراسة المستقبل كامتداد لدراسة الحاضر هي ضرورة حتمية لا غنى عنها. وعليه فقد جاءت التوجهات الأيديولوجية كمرافق قوي متلازم مع هذه التوجهات المستقبلية، رغم أن بعض المستقبليين يحاولون استبعاد الأيديولوجيا من حقلهم بوسائل تكتيكية، وربما عابرة لأسباب عملية صرمة هدفها توجيه الدراسات المستقبلية باتجاه حل المشاكل الواقعية للإنسان والمجتمع وما يتمخض عن ذلك من تحديات تتطلب حلولاً مستقبلية. *كاتب إماراتي