يُعد الكوبالت معدناً أساسياً لبطاريات الأجهزة الذكية والمركبات الكهربائية، وبالتالي لمستقبلنا، لكنه يظل مطارَداً من قبل ماضٍ من العبودية والكولونيالية. الهاتف الذي بين يديك يحتوي على غرامات من هذا المعدن، وهناك احتمال كبير أن يكون بعضه قد استُخرج من قبل عمالٍ يعملون في حفر مسمومة مقابل أجر زهيد، مثلما يُظهر ذلك سيدهارت كارا في كتابه «الأحمر الكوبالتي».
الكوبالت، الذي يُستخدم كمصدر للصبغة الزرقاء منذ القدم، انضم مؤخراً إلى «الماس الدموي» و«روبيان السخرة»، باعتباره أحدث ممارسة ممقوتة من قبل منتقدي العولمة. قرابة نصف احتياطيات العالم توجد في جمهورية الكونغو الديمقراطية، البلد الذي تمزّقه الحرب، والذي لطالما كان محل تهافتٍ جيوسياسي على موارده الاستراتيجية. انتهاكات حقوق الإنسان وعمل الأطفال آفةٌ منتشرة بكثرة في قطاع المناجم في الكونغو، وفي عام 2016، أصدرت منظمة «أمنستي إنترناشيونال» و«أفريووتش» تقريراً ربط شركات مثل «آبل» و«سامسونج» باستغلال الكوبالت. وكان القطاع قد وعد بإصلاحات، لكن منذ ذلك الحين، لم يزدد الطلب عليه إلا ارتفاعاً. وفي هذا الكتاب، يحقق كارا في ما الذي تغيّر، إن وُجد.
كارا، وهو أستاذ محاضر بكلية كينيدي التابعة لجامعة هارفرد، سبق له أن كتب عن الاتجار بالبشر وأشكال أخرى مما يسمى العبودية المعاصرة. وعلى غرار كتبه السابقة، يتّخذ كتاب «الأحمر الكوبالتي» شكل محاولة لفضح الظلم من خلال عرض سلسلة من صور الاستغلال والبؤس. ولهذه الغاية، يقترح كارا أخذنا في «رحلة على الطريق الوحيد المؤدي إلى الحقيقة»، رحلة إلى مناجم كاتانغا، نحو مركز الكوبالت في كولويزي، «قلب الظلام الجديد».
منذ استيلاء الملك البلجيكي ليوبولد الثاني عليه في عام 1885، زوّد نهرُ الكونغو وحوضه العالَم بالثروات التي شملت العاج والمطاط وزيت النخيل والماس واليورانيوم.. ومع ذلك، فإن أكثر من ثلاثة أرباع سكان الكونغو يعيشون تحت خط الفقر، بينما تحظى قلة قليلة منهم بإمكانية الوصول إلى مياه شرب نظيفة، وأقلية أقل إلى الكهرباء.
واليوم، يرخي الصراع الأميركي الصيني بظلاله على الحياة السياسية في الكونغو، حيث وعد الرئيسُ الحالي فيليكس تشيسيكيدي بإعادة النظر في العديد من الامتيازات والعقود المربحة التي منحها سلفُه لشركات صينية. وتُنتج الشركات الصينية ثلاثة أرباع الكوبالت المكرر في العالم، والذي يُعد أساسياً لهيمنتها على قطاع البطاريات الكهربائية. نحو ثلثي إمداداتها يستخرَج ويعالَج بوساطة آلات ثقيلة في مناجم صناعية يُنظر إليها على أنها خالية نسبياً من العمل القسري وعمل الأطفال، لكن الباقي يستخرجه عمال مناجم تقليديون يستطيعون في كثير من الأحيان إنتاج خامٍ ذي درجة أعلى بكثير. ولأن رواسب الكوبالت توجد أحياناً على مقربة من السطح، «مثل الزبيب في الكعكعة»، على حد وصف كارا، فإنه يمكن استخراج هذا الخام بوساطة أدوات بسيطة. وفي أماكن أخرى، يكتفي السكان المحليون بالبحث بين أكوام المخلفات الصناعية.
واعتباراً من عام 2018، قام كارا بعدد من الزيارات إلى مناجم الكوبالت في الكونغو، متنقلاً بين المواقع ومفاوضاً المليشيات التي تحرسها على السماح له بالدخول إليها. هنا يكدّ عمالُ المناجم في حفر أنفاق مفتوحة، وبعضها ضخم مثل «شابارا»، حيث كان يوجد «أكثر من 15 ألف رجل وصبي يحفرون ويجرفون ويصرخون داخل الحفرة العملاقة، وبالكاد يستطيعون التحرك أو التنفس من شدة ضيق المكان».
العمّال، الذين لم يكن معظمهم يرتدون ملابس واقية، كانوا يشتغلون وسط معادن سامة.
وقد أجرى «كارا» حواراتٍ مع بعض الأشخاص الذين أصيبوا بعاهات وإعاقات مدى الحياة في حوادث، ورأى بأم عينيه جثمان صبي يُنتشل من بين أنقاض نفق منهار خلّف مقتل 63 شخصاً.
العديدُ من حوارات كارا جرت تحت أنظار الحرس المسلَّحين، وعلى الرغم من أنه يصف بتفصيل دقيق البؤس والأخطار المحدقة بعمال المناجم، إلا أن حدود طريقته تصبح واضحة في الأماكن التي يُختزل فيها السكان المحليون إلى مجرد أشخاص يعانون، أو «كرات من الغبار» في بلدات حيث «لا أحد يبتسم باستثناء الأطفال الصغار». لكن قوة الكتاب تكمن في الكيفية التي يحلِّل بها مؤلفُه، وهو مصرفي استثماري سابق، الاستغلالَ الذي يستخلص قيمةً من عمل عمال المناجم، ثم يغسل منتجهم الملوَّث ويقحمه في سلسلة التوريد العالمية.
ويُشترى الكوبالت التقليدي الذي يستخرجه عمال المناجم في عين المكان من قبل تجار متجولين، معظمهم عمال مناجم سابقون جمعوا رأسمال يكفي لاقتناء دراجة نارية أو سيارات «بيكاب»، ولتقديم الرشى وشراء التصاريح الضرورية لاجتياز نقاط التفتيش. ويجلب التجارُ الخامَ إلى مستودعات تعرف باسم «ميزون داشا» (بيوت الشراء)، وهي عبارة عن أكواخ صغيرة تقوم بالإعلان عن نفسها بوساطة قماش وردي مميز وأسماء مصبوغة مثل «مستودع المليون دولار». وفي كل خطوة من الخطوات، يتم التحايل والالتفاف على القوانين واللوائح من خلال تقديم الرشى، بينما يبقي الرجالُ المسلَّحون عمالَ المناجم في أماكنهم. وتبيع المستودعاتُ الخامَ المستخرج بطرق تقليدية إلى منشآت المعالجة، وهناك يمتزج بشكل لا يمكن تمييزه مع الكوبالت المستخرج بطريقة صناعية، وهكذا فإنه «ليس هناك شيء اسمه سلسلة توريد نظيفة للكوبالت القادم من الكونغو»، كما يَخْلص الكتاب.

محمد وقيف

الكتاب: الأحمر الكوبالتي.. كيف تمدُّ الكونغو حياتنا بالطاقة
المؤلف: سيدهارت كارا
الناشر: سينت مارتنز برِس
تاريخ النشر: يناير 2023

عن خدمة «نيويورك تايمز»