أقرت الحكومة اليابانية منذ أيام مراجعةً جذريةً لسياستها الدفاعية التي تجد جذورها المعاصرة في الدستور الياباني الذي كُتِب بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية والاحتلال الأميركي لليابان، والذي دخل حيّز التنفيذ في عام 1947 وكان يعكس تخوُّف الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة الأميركية من إمكانية تجدد صعود القوة العسكرية اليابانية التي مثلت كابوساً مزعجاً لهم وبالتحديد للولايات المتحدة بعد عملية بيرل هاربور الشهيرة. وظهر هذا التخوف واضحاً في عدم سماح ذلك الدستور لليابان بامتلاك جيش أصلا. وفي إطار هذه المراجعة الجذرية تنوي اليابان مضاعفةَ ميزانيتها العسكرية السنوية بحيث تصل بإنفاقها الدفاعي من 1٪‏ إلى 2٪‏ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2027، وهي النسبة المعتمدة كمعيار للإنفاق العسكري في حلف شمال الأطلسي (الناتو). وليس معروفاً كيف ستُمول هذه الزيادة، وإذا تم تمويلها بفرض ضرائب جديدة فقد يؤدي ذلك إلى إثارة جدل سياسي في الداخل الياباني. ولم تترك الحكومة اليابانية مجالا للشك في أن السبب الأصيل لهذا التحول هو تنامي المخاوف من زيادة القوة العسكرية الصينية والسلوك العسكري للصين كما ظهر مثلا في أغسطس الماضي عندما كثّفت الصينُ تدريباتِها العسكرية بالقرب من تايوان، وهي التدريبات التي شهدت سقوط صواريخ في البحر داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة لليابان. وعليه فقد اعتبرت الاستراتيجيةُ اليابانيةُ الجديدةُ القوةَ العسكرية الصينية مصدر قلق كبير وتحدياً غير مسبوق لسلامة اليابان واستقرارها. 

ويُضاف إلى ذلك بطبيعة الحال السلوك العسكري لكوريا الشمالية، والذي انطوى في الآونة الأخيرة على تجارب لإطلاق صواريخ باليستية اخترق بعضُها أجواءَ اليابان.
أما روسيا فهي مشغولة حالياً بعملية عسكرية تثبت استعدادَها للتوظيف الفعلي لقوتها العسكرية لتحقيق أهدافها.
وكما هو متوقع فقد سارعت الإدارة الأميركية إلى الترحيب بالخطوة اليابانية، واعتبرت أنها تعكس التزامَ اليابان بدعم قواعد النظام الدولي الراهن وإقامة منطقة حرة ومفتوحة في المحيطين الهندي والهادئ. وأعرب وزير الدفاع الأميركي عن ترحيبه بالاستراتيجية اليابانية الجديدة، وأكد على التوافق بينها وبين استراتيجية الدفاع الوطني الأميركية وأولوياتها، وأشاد بزيادة الإنفاق العسكري لليابان. وكذلك فعل مستشار الأمن القومي جيك سوليفان في بيان رسمي. وبطبيعة الحال فهذا رد فعل متوقع في إطار السياسة الأميركية الراهنة التي تعطي الأولوية لمنطق عسكرة العلاقات الدولية عامة، وفي منطقة المحيطين الهندي والهادئ خاصةً، كما بدا على سبيل المثال من اتفاق «أوكوس» في سبتمبر2021 الذي جمع الولايات المتحدة مع بريطانيا وأستراليا واعتُبِر موجَّهاً ضد الصين. ثم تفجرت الأزمة الأوكرانية في فبراير الماضي نتيجة إصرار الولايات المتحدة على التطويق الكامل لروسيا بحلف الناتو. وبعد تفجر الصراع العسكري في أوكرانيا، ظهر الإصرار على تغذيته أياً كان الثمن، وأدى هذا إلى تطورات مُحْبِطة باتجاه مزيد من العسكرة، كما ظهر من الزيادة النوعية في الإنفاق الدفاعي الألماني، وطلب السويد وفنلندا المحايدتين تقليدياً الانضمام للناتو.
وأضافت السياسة الأميركية استفزازاً غير مفهوم للصين بزيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي لتايوان في أغسطس الماضي، والتصريحات التي تحدثت عن التزام أميركي بالدفاع عن الجزيرة!

وها هي اليابان تُكْمل الحلقةَ بالتعديلات الأخيرة في استراتيجيتها الدفاعية. ولا ينكر أحدٌ الهواجسَ الأمنيةَ المشروعةَ لأي طرف دولي، سواء أكان ذلك من السلوك الروسي تجاه أوكرانيا أو نمو القوة العسكرية الصينية، غير أن المقلق ما يبدو من أن أحداً لا يبدي الاهتمامَ الواجبَ بالمسارات السياسية والسلمية البديلة والتي من شأنها تجنيب البشرية ويلات المزيد من العسكرة والحروب في وقت تتعاظم فيه التحديات الاقتصادية والمناخية والصحية والإنسانية.. فمتى تُفْسِح القوى المؤثرة في السياسة العالمية المجالَ لمسار بديل يحقق أمن العالَم وسلامتَه ورخاءَه؟


*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة