يمثِّل أداء المنتخب المغربي المذهل في كأس العالم، وتأهله إلى مباراة نصف النهاية ضد فرنسا، ومشاعر الفرح والبهجة التي خلقها عبر العالم، لحظةً خاصةً بالنسبة للمغاربة والكثيرين في العالم العربي وخارجه. فهذه ليست فقط قصة كلاسيكية لمنافس غير مرشح للذهاب بعيداً في المنافسة، أو قصة انتقام بلد من الجنوب ضد قوى كولونيالية سابقة وخصوم تاريخيين، أو قصة تزايد مشاعر الفخر والاعتزاز العربية والأفريقية والمسلمة. يشير أداء المغرب في كأس العالم لهذه السنة إلى لحظة خاصة من التأثر، والوعي الذاتي، والتفاؤل غير الحذر الذي لم أره في هذه المنطقة منذ عقد من الزمان. 
والحق أنني آخر شخص يمكن أن يصدر مثل هذه التصريحات الكبيرة بناء على حدث رياضي. فحين كنتُ طفلاً في المغرب في الثمانينيات، لم أكن مهتماً بكرة القدم البتة. وفي المدرسة، كنتُ الطفل الطويل والنحيف غير المنظم الذي يكون آخر من يتم اختياره دائماً عند تشكيل الفرق خلال حصة الرياضة. واللحظات التي أكون فيها قريباً من الكرة هي حين تضربني خلف رأسي حين أكون ماشياً في محيط ملعب مستغرقاً في أفكاري. وخلال كؤوس العالم، كان أصدقائي من هواة جمع صور لاعبي المنتخبات المؤهلة وتشكيل ألبومات منها، بينما كنت أفضّل جمع صور الديناصورات.
بعد أكثر من 30 عاماً بقليل، إلى الأسبوع قبل الماضي. إنني في بيروت أغالب الدمع معانقاً نادلاً في مقهى الفندق. لقد هزم المغرب إسبانيا للتو في ضربات الجزاء بعد مباراة طويلة ومحتدمة ليتأهل إلى ربع النهاية لأول مرة في تاريخ البطولة. الهتافات والتصفيقات تتعالى في المقهى. ثم سرعان ما يخرج أنصار المنتخب المغربي من كل الأطياف، في بيروت وفي المغرب وعبر العالم العربي وجزء كبير من أوروبا، للاحتفال بهذا النصر، مطلقين العنان لمنبهات سياراتهم ومنتشين بهذا الإنجاز حتى ساعات متأخرة من الليل. أصدقاء وزملاء وأقارب اتصلوا – بي! -- أو كتبوا من أجل التهنئة. تلك اللية، بالكاد نمت.
خلال الأيام القليلة التالية، وبينما تأهل المنتخب المغربي إلى نصف النهاية بعد تغلبه على المنتخب البرتغالي، كانت هناك مشاهد احتفالات من أماكن دمرتها الحرب مثل غزة، وتصريحات كثيرة من مسؤولي حكومات ومنظمات دولية يقدّمون التهاني بمناسبة هذا الإنجاز. وفي العاصمة الأردنية عمّان، حيث أعيش، غيّرت شركات إعلاناتها وكيّفتها لاستغلال هذا الحب والتشجيع العارم للمنتخب المغربي. فحين قصدتُ متجراً لشراء فراش، عُرض علي «خصم خاص للمنتخب المغربي».
ووجدتني أنا الذي لم تكن كرة القدم تستهويني أفكر في شيء غيرها خلال الأسبوع الماضي، وكذلك الحال بالنسبة لمعظم الناس في المنطقة على ما يبدو.
بالنسبة للمغاربة، هذه ليست شوفينية. فالبلد عمل بجد من أجل هذه اللحظة، إذ قام بإصلاح اتحاده لكرة القدم خلال العقد الماضي واستثمر كثيراً في لاعبيه. ووليد الركراكي المدرب الفذ للمنتخب يستطيع أن يشرح بفصاحة دواعي كل قرار من قراراته من خلال تحليل دقيق لنقاط قوة الفريق المنافس ونقاط ضعفه. والأكيد أن المنتخب المغرب لم يكن محظوظاً، وإنما فاز، من خلال استراتيجية دفاعية قوية، على فرق أغنى تجربة وأعلى مرتبة منه بكثير من خلال مثابرته وقوة عزيمته، مع عواقب وخيمة في أحيان كثيرة للاعبيه، الذين تعرضوا لإصابات عديدة من خلال تعريض أنفسهم للخطر ووضع أنفسهم في طريق الهجمات الشرسة.
والحق أن هناك الكثير من الأشياء التي يمكن للمرء أن يفتخر بها ولكن ربما أهمها هو وجود فريقنا في مسابقة الكبار، ورؤية لاعبين يشبهوننا يبلغون هذه المكانة المرموقة على الساحة العالمية.
ما نشعر به حالياً هو أيضاً شكل متطور من الفخر الوطني، بدون أي عقدة بخصوص من يُعد مغربياً «حقيقياً» ومن لا يُعد كذلك، ذلك أن نصف الفريق مؤلفٌ من لاعبين ثنائيي الجنسية، والركراكي نفسه مولود في فرنسا. ولعل جزءاً من نجاح الفريق يعود لقدرته على الاستفادة من لاعبين يلعبون في أندية أوروبية مرموقة بالطبع، ولكن ذلك ليس هو بيت القصيد. ففي فرنسا، يشتكي سياسيون يمينيون متطرفون مثل إيريك زمور على التلفزيون في أوقات ذروة المشاهدة من الوجود المفرط للبشرة السوداء في المنتخب الوطني الفرنسي، ويشعرون بالاستياء لأن مغاربة-فرنسيين يختارون دعم المغرب في مباريات نصف النهائي، هذا في حين أنه في المغرب لا يمكن تصور أحد يقول إن المنتخب الوطني غير تمثيلي.
بل على العكس من ذلك، إذ يمثِّل المنتخب تنوع المغرب، وحقيقة أنه بلد مهاجرين، وبلد عرب وأمازيغ ويهود، بلد يعتبر نفسه أفريقيا وفي الوقت نفسه شرق أوسطياً. ولهذا قد يشعر البعض ببعض الحيرة لحقيقة أن هذا المنتخب يمكن أن يُحتفى به في تل أبيب من قبل اليهود المغاربة ويقوم في الوقت ذاته برفع العلم الفلسطيني تضامناً مع الشعب الفلسطيني الذي يعاني، ولكن تلك بالضبط هي العالمية والكونية التي وجدت لها صدى في جزء كبير من العالم.
إن شعورنا تجاه كأس العالم يعكس في جزء منه كيف نريد أن يكون شعورنا بخصوص حياتنا السياسية، ومستقبل أطفالنا، ومكاننا في العالم. هذه لحظات استطعنا فيها أن نوصل إلى العالم صورةً مختلفةً عن الكيفية التي نخشى أن ينظر بها العالم إلينا: إما كضحايا أو كمتعصبين يكافحون من أجل البقاء وسط الحرب والإرهاب والتراجع الاجتماعي والاقتصادي.
وخلاصة القول إن المنتخب المغربي يمثِّل الصورة التي نودُّ أن ننظر بها إلى أنفسنا: واثقين، وأذكياء، وصارمين، ومجتهدين، ومرحين، وكريمي النفس. وبغض النظر عن مدى نجاحه مستقبلا، فإنني أدركُ أن لحظة الفرح والابتهاج هذه عابرة. غير أنه حتى بعد أن تنحسر حمّى كرة القدم ونعود إلى مشاغلنا اليومية، فلا شك أننا سنكون أطول قامةً قليلاً من ذي قبل.


إيسندر العمراني*
كاتب أميركي مغربي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»