في مطلع القرن العشرين، تنبأ المفكر البريطاني نورمان أنجيل بأن عصر التكامل التجاري العالمي جعل الصراع بين القوى العظمى مكلفاً ومدمراً لدرجة تجعل من غير الممكن التفكير فيه. وبعد بضع سنوات، أثبت اندلاع الحرب العالمية الأولى أنه محق بشأن الكلفة والدمار، لكنه كان مخطئاً في أنه لا يمكن التفكير فيه. فقد أنهت الحرب العظمى العصر الأول للعولمة، واستغرق الأمر أجيالاً لإعادة بناء مستوى التكامل العالمي الذي كان سائداً قبل اغتيال فرانز فرديناند، ولي العرش النمساوي، عام 1914. 
والهجوم الروسي على أوكرانيا يمثل صراعاً أصغر بكثير من الحرب العالمية الأولى، والاضطرابات التجارية المرتبطة بشبه الحظر الأميركي والأوروبي على روسيا أصغر من الحصار البريطاني لدول المحور. لكن الصدام مع ذلك يمثل خطوة كبيرة تبتعد عن العولمة. وعلى عكس الحرب العالمية الأولى، يأتي الصدام في وقت كان فيه العالم يبتعد بالفعل عن التكامل الاقتصادي. فقد بلغت حصة التجارة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ذروتها عام 2008 ثم تراجعت العقد الماضي. ومن ثم لا تمثل الحرب في أوكرانيا بالضرورة قطيعة حادة في التاريخ. لكنها تؤكد وربما تعزز تراجع العولمة. وبدأ هذا التراجع برد فعل شعبوي عنيف تجاه الركود الكبير وبطء نمو الوظائف الذي جعل سياسات الحفاظ على الوظائف أكثر جاذبية من سياسات الكفاءة. وفي نهاية المطاف، دخل منطق الصراع الجيوسياسي المعادلة. فمبادرة «صنع في الصين 2025»، التي أطلقها الرئيس شي جينبينج، على سبيل المثال، لا تتعلق بخلق فرص عمل، بل تتعلق بتأمين مساحة اقتصادية للصين للعمل باستقلال سياسي. 
وحين تعرضت روسيا بقيادة فلاديمير بوتن لعقوبات عام 2014 بعد الاستيلاء على شبه جزيرة القرم، لم تستجب بالانسحاب من شبه جزيرة القرم، بل بتدشين جهود تقي اقتصادها من أثر العقوبات من خلال التركيز على الإنتاج المحلي. وكان هذا مكلفاً لروسيا، الدولة ذات الكثافة السكانية المنخفضة والغنية بالموارد الطبيعية والتي ينبغي لها أن تعتمد كثيراً على الاقتصاد التجاري. لكن هذا النهج لم يجد نفعاً أيضاً، ونظام العقوبات الحالي يوضح أن الدول التي تسعى إلى حماية نفسها من الضغط الأميركي يتعين عليها تقليل اعتمادها على سلاسل التوريد الدولية بشكل أكبر. وبالطبع، لا تطمح معظم الدول إلى شن هجمات بلا مسوغ لجيرانها، لكن حتى الأطراف الأفضل خصالاً من بوتين قد ترى قيمة للاستقلالية. 
وحين وقعت جائحة كوفيد-19، كان للسيادة الوطنية الأولوية على التجارة الحرة في كل مكان تقريباً. وفجأة، أصبح مكان إنتاج الأقنعة وأدوات الحماية الشخصية الأخرى مسالة ذات أهمية كبيرة. وبالمثل، تمت عملية إعطاء اللقاحات في الولايات المتحدة وأوروبا، ليس فقط قبل البلدان منخفضة الدخل، لكن أيضاً قبل الدول الغنية الأخرى، لأن لديها قدرات الإنتاج. 

وفي الولايات المتحدة، هناك قضية واحدة لم يختلف فيها الرئيس جو بايدن عن سلفه وهي التجارة مع الصين. فبايدن، مثل دونالد ترامب، يفضل «فصل» الاقتصادين الأميركي والصيني وجعل الولايات المتحدة أقل اعتماداً على الواردات الصينية. والرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على السلع الصينية مازالت قائمة على الرغم من مخاوف التضخم. وتعهد بايدن بأن يجري تصنيع كل شيء، من سطح حاملة الطائرات إلى صلب حواجز الطرق السريعة، «في أميركا من البداية إلى النهاية». وكان هذا التعهد في خطاب «حالة الاتحاد» من أفضل العبارات التي أكسبت بايدن معدلات تأييد كبيرة في استطلاعات الرأي. 
والدول الأجنبية ترى هذا أيضاً. ونظام العقوبات ضد روسيا صارم للغاية وغير عالمي بشكل مفاجئ. وتبحث قوى إقليمية طموح مثل الهند والبرازيل ونيجيريا كيفية تفادي أسلحة الدمار الشامل المالية الأميركية وتفكر في إمكانية تعديل دفاعاتهم خشية أن ينتهي بها الأمر بالوقوع في مرمى النيران. وهناك أسباب وجيهة لكل هذا الانحسار للعولمة، لكن له كلفة أيضاً. فلم تربط دول العالم اقتصاداتها ببعضها البعض لمجرد التسلية أو كتصور تجريدي للعلاقات الدولية. فقد حصد المستهلكون في جميع أنحاء العالم فوائد كبيرة من عالم من التخصص والميزة النسبية والشحن في الوقت المناسب وسلاسل التوريد الدقيقة. 
وهناك مسوغات للمخاوف الأمنية التي تؤدي حالياً إلى تراجع العولمة. لكن الاقتصاديات الشعبوية التي قادت الموجة الحالية قبل عقد من الزمان مخطئة في الأساس. فالبطالة الجماعية بعد الأزمة المالية كانت خطأً مأساوياً لسياسة جانب الطلب، ولم تكن خطيئة العولمة. وتستطيع أميركا بالتأكيد استخراج المزيد من النفط والغاز، وإنتاج المزيد من السيارات والشرائح الرقمية الدقيقة والصلب. لكن لا يوجد جيش ضخم من الأيدي العاملة المتعطلة للقيام بهذا.
وإذا أعادت الولايات المتحدة إلى أراضيها إنتاج جزء كبير من السلع القابلة للتبادل التجاري، فلن يتبقى إلا عدد أقل من الناس لبناء المنازل والعناية بالأسنان والشعر وطهي الطعام والعناية بالأطفال وكبار السن. صحيح أن هذا قد يكون ثمناً مستحق الدفع لتحقيق متطلبات الأمن الحقيقية، لكن علينا الانتباه إلى أنه مع انسحاب عدد أكبر من الدول من العولمة سيتفاقم الثمن. فالعالم الأكثر فقرا يقدم عدداً أقل من المستهلكين لصادرات الجميع، والعالم الأقل ارتباطًا اقتصادياً تتزايد فيه احتمالات التفكير في الاضطرابات والصراعات.
ألا يوجد مفر من هذه الكلفة؟ ربما لا مفر، لكن يمكن التخفيف من حدتها. 

وأحد البدائل لاستيراد السلع الأجنبية الصنع، على سبيل المثال، هو استقدام العمال المولودين في الخارج. وفي عالم يتسم بالتضخم، ومقيد بالإمداد، ويتراجع عن العولمة، يعتبر المهاجرون – ومن بينهم من يوصفون بأنهم «غير مهرة» ممن ينظفون المنازل ويغسلون الأطباق ويجنون المحاصيل- من الأصول القيمة. 

وينبغي النظر إلى استخدام الذكاء الاصطناعي في المهام الروتينية على أنه فرصة وليس سبباً للقلق. ويتعين أيضا النظر ببراجماتية في المشكلة الفعلية التي تحاول أي سياسة معينة معالجتها. الترابط العولمي يتفكك لأسباب وجيهة. كما أن التجارة الدولية ليست البعبع الذي يصوره منتقدوها الشعبويون. وسنفتقد العولمة عندما تختفي، وليس من السابق لأوانه البدء في التفكير فيما يمكن أن يحل محلها. 

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»