عندما قام القائد العسكري الفرنسي نابليون بونابورت باحتلال الدول الأوروبية، واصل متقدماً نحو روسيا لغزوها في عام 1812، وداخل الأراضي الروسية رأى فلاحاً روسياً بيده منجل ويحرث أرضَه على مشارف المدينة، ولم يعط اهتمامه لموكب نابليون وجيشه ورفاقه، فقال نابليون: آتوني بهذا الفلاح الروسي ، فسأله: لماذا لم تنتبه أو تهتم لموكبي المهيب؟ ألا تعرف من أنا؟ فقال الفلاح: لا يهمني من أنت، أنا أفلح أرضي التي أنا بها هنا. فقال نابليون: لكني جئت لغزو روسيا كلها. فرد الفلاح: خسئت أيها الغازي.

فطلب نابليون من حراسه قضيبَ حديد محمياً في النار كي يكتبوا به اسم نابليون على ذراع الفلاح الروسي حتى لا ينسى اسمه طوال حياته. فقام الفلاح في الحال وحمل منجله وبتر يدَه ورماها وقال: خذ اسمك إليك، فلا يشرفني أن أحمله على جسدي أيها المحتل الغازي؟!

عندها قال نابليون قولته الشهيرة: «من هنا تبدأ الهزيمة»، وقد هُزم بالفعل على الأراضي الروسية أقسى هزيمة!هذه القصة استحضرتها حين التقيتُ برجل عجوز من قومية الكرد على رأس أحد جبال كردستان العراق، فأخبَروني بأنه أحد أبطال «البيشمرجة» الذين كان يطلق عليهم اسم «العصاة»، لأنهم عصوا الدولة العراقية في سبعينيات القرن الماضي حتى منحتهم الإقليم حكماً ذاتياً، وقد قاتل معهم طوال 25 عاماً متواصلة.

سألت العجوز الكردي: هل قاومتَ الحكومة العراقية بالفعل أيام قوتها وجبروت جيشها القوي الجرار في تلك المرحلة؟ قال: نعم، كانت الطائرات تقصفنا، وتحيطنا الدبابات من هنا والمدرعات من هناك، بينما يتقدم نحونا الجيش العراقي بكل أصنافه من هذه الجهة، وضمنه «الفرسان» الذين يطلق عليهم «المرتزقة»، وهم مدنيون يقاتلون بجانب الجيش العراقي للقضاء على أي تمرد ضد السلطة. ويسترسل العجوز «أبو ديدوان» الذي أُطلق اسم ولده على نفس الجبل، إذ كان هو أيضاً يقاتل الحكومة المركزية من فوقه بشدة، فيقول: لقد حاربنا الرئيس العراقي السابق صدام حسين

وهنا استغربتُ وقلتُ في نفسي: ربما أخطأ التعبير وهو يتكلم العربية كلغة ثانية ليست لغته الأم، فقلت له: أعد لي هذه الجملة من فضلك، فكررها ثلاث مرات للتأكيد ولإظهار الإصرار من جانبه، فقلت له: هل توضح لي هذه الجزئية؟ فقال: كنت أقاوم، وأريد وطناً صغيراً جداً لا أحد يتعدى عليه! وطناً أنتمي له لغةً وهويةً، لأني كردي، وهذه أرضي وأرض آبائي وأجدادي. قلتُ له: لكنك عراقي أيضاً. قال: نعم، إلا أن قوميتي وهويتي ولغتي كردية، أريد أن أحس بالانتماء للأرض التي أحرثها وأزرعها وأجني ثمارَها وأقطن بها.

وأضاف: عندما يلعب منتخب كرة القدم العراقي ضد إيران أو أي بلد آخر، ويفوز المنتخب العراقي، فإني أفرح وأطلق العيارات النارية في الهواء فرحاً وابتهاجاً بهذا الفوز الوطني، وذلك رغم حاجتي للذخيرة حتى أطلقها دفاعاً عن وجودي وأرضي وهويتي! هنا أُسقط في يدي، وأثنيت عليه وعلى موقفه الوطني، وأُعجبت بمدى اعتزازه بهويته وأرضه وبلده.. وهكذا هو الولاء الصادق والانتماء الحقيقي والموقف المشرف والمبدأ الثابت، أي الانتماء للأرض والإنسان والوجود والهوية.

 كاتب سعودي