ارتبطت العلمانية بالديموقراطية منذ نشأتها في أوروبا قبل قرون قليلة! لم تكن العلمانية لتعيش وتزدهر لولا وجود ديمقراطية حقيقية على الأرض. ولم تكن الديمقراطية لتستطيع رفع راياتها في العديد من البلدان الأوروبية، لولا أن العلمانية كانت قد رسخت من حضورها في وجدان شعوب أوروبا.
نزعت العلمانية الحق الإلهي للملوك في حكم الأرض، ثم تلت ذلك بإبعاد الكنيسة عن السلطة السياسية وتعطيل سيطرة «صاحب الكرسي الرسولي» على الحياة العامة، وتولت الديمقراطية بعد ذلك تنظيم أدوات الحكم بمزاج مدني خالص، يتناقض تماماً مع إيمان الملك الإنجليزي «الفريد العظيم» الذي كان يقول بأن الله خلق العالم على شكل مثلث، يحكم فيه ضلع، ويصلي فيه ضلع، ويخدم الضلع الثالث ضلعي الحكم والصلاة! أي أن مهمة الشعب تنحصر – بحسب صاحب الحق الإلهي في الحكم - في خدمة الملك ورجال الدين!
وُلدت «ثنائية العلمانية والديموقراطية» واشتد عودها في المجتمعات المسيحية الأوروبية لثلاثة أسباب رئيسية في تقديري:
أولها سياسي، وهو فض الاشتباك بين الملوك والبابوات على إدارة السلطات السياسية.
والثاني اجتماعي، وهو الحاجة إلى الحد من صلاحيات رجال الدين الكنسيين المطلقة على عامة الناس.
والثالث اقتصادي، وهو القضاء على النظام الإقطاعي الذي كان يستمد وجوده من قوة رجال الدين وسيطرة الملوك المطلقة!
نشأت هذه الثنائية في مجتمع مسيحي متشابه. وانتقلت في ما بعد إلى مجتمعات مسيحية أخرى لها محدداتها الخاصة. وكانت تنجح في كل «اختبار وجود» لأنها كانت تستند على طبيعة واحدة ومرجعيات واحدة ومستقبل واحد! كبرت مع الزمن وتنوعت منتجاتها، وأثبتت أنها «الخلطة الأفضل» لأوروبا المسيحية التي كانت ترزح في القرون الوسطى تحت وطأة الفرقة والخلاف!
ثم ماذا بعد؟! بدأت الديموغرافيا تتغير شيئاً فشيئاً في أوروبا وأميركا. المجتمع المسيحي الخالص الذي تعلمن وتمقرط من أجل حكم نفسه، بدأ يستقبل موجات جديدة من المهاجرين الذين يحملون أدياناً مختلفة ووجوهاً لا تشبه ملامح وسحنات وجوه أهل الأرض! وفي ما كانت منافع ثنائية العلمانية والديموقراطية خاصة بمنتجيها الأوائل، دخلت مجاميع جديدة تحت ظلها، وصارت تطالب بنفس الحقوق والمكاسب التي تهبها هذه الثنائية للسكان الأصليين!
ثم ماذا بعد؟! فرنسا التي طورت عام 1905 علمانيتها المعدلة بقانون يفصل بين الكنيسة والدولة ويمنع الأجهزة الحكومية الرسمية من التدخل في «السلوك الديني» للمواطنين، انتبهت في السنوات الأخيرة لحجم الوجود الإسلامي المتنامي بها، فقررت أن تتنازل عن «علمانية 1905» المخصصة ضمناً للمسيحيين الكاثوليك، وتبدأ في محاصرة الدين الإسلامي تحت عنوان محاربة «الانفصالية الإسلاموية»!
وأميركا التي قامت على أسس علمانية خالصة، والتي كانت «لا تضع قانوناً يحترم مؤسسة دينية، أو يحظر ممارستها بحرية»، بحسب الرئيس الثالث توماس جيفرسون، أصبحت تضع أنف أجهزتها الأمنية في المساجد والملتقيات الدينية الإسلامية، وتراقب صعود الدين الإسلامي بين الأميركيين وتشتغل على أن لا يكون له حضور بارز في مرجعية البلاد الثقافية والاجتماعية!
ومثلما تفعل فرنسا وأميركا، لن تسمح بريطانيا ولا ألمانيا ولا إيطاليا بالعلمانية، التي تصبغ المجتمعات هناك بالصبغة الإسلامية، ولن ترضى بالديموقراطية، التي تأتي برئيس مسلم يحكم البلاد. لا بأس بالعلمانية والديموقراطية، التي تأتي برئيس بلدية مسلم، لكن عندما يصل الأمر إلى رئاسة الدولة، فلتذهب العلمانية والديموقراطية إلى الجحيم!
كاتب سعودي