حتى نفهم العالم بصورة أوضح، علينا أن ننظر إليه أحياناً من وجهة نظر الأقاليم، ليس إقليم الشرق الأوسط فحسب، بل الأقاليم الأخرى المحيطة، ومع أن أقاليم العالم كثيرة، ويصعب حصرها لأسباب عديدة، منها أسباب تاريخية كانت تصنف الأقاليم بناء على الإمبراطوريات القديمة وعلى الحروب الشرسة التي كانت تجري بين القارات والشعوب المتباعدة والمتقاربة، وأخرى بناء على التقسيم الديمغرافي في العصور الوسطى وكذلك تقسيمات إقليمية خلال وبعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، إضافة إلى تقسيمات أخرى للهيئات والمنظمات العالمية كالأمم المتحدة حين تتحدث عن الدول النامية والمشكلات الإنسانية وتصنيفاتها بناء على الإقليم وليس على القارة أو الدولة.

التقسيم الإقليمي وكما هو مفيد من ناحية سياسية هو مفيد أيضاً من نواحٍ اقتصادية، حيث يمكن تعزيز سبل التعاون والشراكة في الإقليم الواحد، كما يحدث الآن في إقليم الشرق الأوسط بعد قمة بغداد الإقليمية 2021 التي جمعت الأضداد، وسهلت الطريق لتصفية الأجواء السياسية المتوترة واستبدالها بعلاقات تعاون وشراكة بعيدة المدى. وكان لترؤس صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، «رعاه الله»، وفد الدولة في أعمال قمة بغداد، ودبلوماسيته التاريخية بلقاء بسمو أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ووزير الخارجية الإيراني الجديد، حسين أمير عبداللهيان، واللقاءات الأخرى على هامش مؤتمر بغداد، أبلغ الأثر في تطوير علاقات إيجابية مع دول الجوار و«ترسيخ علاقات تقوم على مبادئ الحكمة ومصلحة الشعوب»، كما عبر عنها صاحب السمو بعد تلك اللقاءات الخيرة والمنتجة.

بالنظر إلى خريطة العالم، يمكن بسهولة تمييز إقليم الشرق الأدنى والشرق الأقصى، عدا عن أقاليم أخرى مثل أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى وكذلك أوروبا الغربية والوسطى، وأقاليم أميركا الشمالية والوسطى والبحر الكاريبي وأقاليم أميركا الجنوبية وكندا وأستراليا، إضافة إلى إقليم أفريقيا جنوب الصحراء عند اعتبار إقليم الشرق الأوسط يتبعه إقليم شمال أفريقيا، وهناك من يرى تصنيف قارة آسيا إلى شرق وغرب وشمال وجنوب، حيث كانت الجغرافيا السياسية الأوروبية قبل الحرب العالمية الأولى، تشير دائماً لتحديد الشرق الأدنى بأنه الأراضي المجاورة نسبياً للإمبراطورية العثمانية، وأن الشرق الأوسط يشير دائماً إلى شمال غرب جنوب آسيا وآسيا الوسطى، والشرق الأقصى يعني البلدان الواقعة على طول غرب المحيط الهادئ وشرق المحيط الهندي.

الحديث عن الأقاليم في هذه المرحلة، لا يختلف كثيراً عن المرحلة التي كان ينظر بها الأوروبيون للعالم، فكانوا يرون ما يقع في الشرق بالنسبة لهم هو شرق أقصى، وكذلك الأمر لما يقع بالغرب بالنسبة لهم هو «غرب أقصى»، وبالنظر إلى أن أميركا كانت تنظر إلى تلك التقسيمات الإقليمية من خلال هذه الرؤيا، سواء عسكرياً أو سياسياً واقتصادياً، لكنها وإذ تنسحب من «أفغانستان»، وهي جزء من إقليم آسيا الوسطى (التي تتكون حسب تعريف تاريخ حضارات آسيا الوسطى التابع لليونسكو المنشور عام 1992 من: أفغانستان، شمال إيران، وشمال ووسط باكستان، وشمال الهند، وغرب الصين ومنغوليا، وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة في آسيا الوسطى)، وكذلك تخطط أميركا للانسحاب من إقليم الشرق الأوسط، وأقاليم أخرى، والتراجع عن دعم الحلفاء أو محاربة الخصوم في تلك الأقاليم، فإن ذلك يعني أن أميركا اليوم تضع لنفسها خريطة جديدة للعالم حسب وجهة نظرها وسياساتها واستراتيجيتها، التي لم يتم التحقق منها بعد.

بالطبع يضم إقليم الشرق الأقصى كلاً من (الصين، روسيا، اليابان، كوريا الشمالية، كوريا الجنوبية، الفلبين، تايوان، تايلاند، إندونيسيا، ماليزيا، سنغافورة، بروناي، كمبوديا، هونغ كونغ، ماكاو، منغوليا، تيمور الشرقية، ماينمار «بورما»، لاوس، فيتنام) وفي هذا الإقليم المتسع والقوي، هناك دول بحجم روسيا والصين لديها أيضاً سياسات واستراتيجيات تتعاكس مع المصالح والسياسات الأميركية، يتركز معظمها في كل من إقليم آسيا الوسطى وإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولديها خيارات متعددة من ضمنها أيضاً استغلال الانسحاب الأميركي بتمتين الصداقات والشراكة والتعاون والتحالف الإيجابي المثمر على الصعد السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية وغيرها.

الأوروبيون ما زالوا يرون أنهم مركز العالم، وينظرون إلى الأقاليم بذات الدرجة من الرؤية، لكنهم يتفقون مع دول إقليم الشرق الأوسط وعلى رأسها دولة الإمارات أنه قد حان الوقت أيضاً إلى أن الطريقة الوحيدة لاستتباب الأمن العالمي ولدفع عمليات النمو والتطور الذي يخدم البشرية والأجيال القادمة، هو أن يتحد ويتحالف كل إقليم بما لديه من إمكانيات لإنهاء النزاعات والخلافات البينية وإرساء السلام والأمن ونشر قيم الأخوة الإنسانية.

* لواء ركن طيار متقاعد