في محاولة تشخيص أبرز التهديدات الأمنية الجديدة التي تندرج على سلم قائمة أولويات قضايا المجتمع الدولي، لا شك أن مواجهة الطبيعة وما يحدث في العالم من حرائق وفياضانات وزلازل لأسباب طبيعية ولأسباب أخرى غير مكتشفة أو مرصودة يأتي في مقدمة القائمة، حيث يعد ما يحصل من متغيرات مناخية عنيفة هو التهديد الأمني الأهم في العالم اليوم بجانب الأوبئة والجائحات وحدوث انقلاب جذري في وفرة المحاصيل والحبوب الزراعية في العالم ومساحة التربة الصالحة للزراعة ومصادر ومنابع المياه الصالحة للشرب والري والمياه المعالجة، وبالتالي لم يعد مفهوم التهديد الأمني المتداول في الوقت الراهن يغطي جميع أوجه مجالات وتداعيات وطبيعة ودوافع ونوايا التهديدات التي تعيشها البشرية في الوقت الراهن، والتي تندرج تحت التهديدات الأمنية التي لا تخضع للتصنيفات والإجراءات الروتينية والمستحدثة مؤخراً كالتهديدات اللامتماثلة أو الهجينة.
ويتأثر مفهوم التهديد بالمستجدات والتغيرات التي تحدث على أرض الواقع، وهو ما يضفي الطابع الحركي والنسبي لمفهوم التهديد، حيث تتعدد مستويات التهديد (فرد، جماعة، دولة، إقليم وغيرها)، ومصادره (من داخل وخارج الدولة والفضاء الخارجي) ومسبباته وأنواعه، وهو ما يجعله مفهوماً مركباً ومعقداً ويركز بعض الباحثين على معيار «المجال» في تصنيفهم للتهديدات، وذلك كالتهديد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتقني والبيئي، ومنهم من يستخدم المعيار «الجغرافي»، ومنهم من يحبذ استخدام تصنيفات معاصرة تركز على معيار «التماثل» و«التأثير»، ويصنف آخرون التهديد حسب درجة الخطورة: كالتهديدات الفعلية والمحتملة والممكنة والمتصورة وغير المرئية (كامنة)، وما مدى التأثير المتبادل والتفاعل بين اللاعبين الرئيسين وباقي الفواعل على الساحة الأمنية الدولية والتباين بين مصالحهم ومصادر قوتهم والذي ينعكس بدوره على أبعاد ومكان وتوقيت ونطاق وامتداد ودرجة التهديد.
بينما يذهب بعضهم للربط والتبادلية بين ما سبق ذكره من معايير، وكنتيجة لما سبق نستنتج أن مفهوم التهديد الأمني متجدد، ولذلك لا بد من الدقة العلمية في تحديده من خلال معرفة أبرز سماته وأبعاده التي يتميز بها حتى يسهل تشخيصه وعلاجه، وذلك على قرار الإنسحاب الأميركي من أفغانستان. وبالتالي إنسحاب قوات حلف «الناتو» وسيطرة «طالبان» الحتمية على محاور الدولة الأفغانية في غضون بضعة شهور والكارثة الإنسانية المتوقعة بالنزوح الجماعي غير المسبوق وأزمة لاجئين ومهاجرين وصل بعضهم للأراضي التركية عن طريق إيران ومنها إلى أوروبا وهو مثال حي يبين لنا أن التهديد الأمني لا يرتبط بعسكرة التعامل مع التهديد فقط والتعامل مع المعطيات الأمنية من دون باقي المعطيات والتي قد تهمين على المشهد ككل.
فالراصد لمؤشرات البيئة الأمنية العالمية، يرى أن هناك تحولاً لحق بطبيعة المخاطر التي تُهدد الأمن العالمي، بحيث تكون الأطراف المتحاربة غير متساوية ومتفاوتة في القوى والوسائل والتنظيم، وتتخذ عدة أشكال، ويُمكن قراءتها على ثلاثة مستويات، وهي الميداني والاستراتيجي العسكري والاستراتيجي السياسي. ورافق ذلك تحول إرهاب الجماعات والدول إلى إرهاب مرن وعلاقة ذلك بالجريمة المنظمة والتجارة غير الشرعية والقرصنة الإلكترونية والسرقة المعرفية العلمية، واستغلال الثورة التقنية لجعل الفوارق بين الجماعات والدول في بعض الأحيان تكاد تميل لصالح الجماعات وما يرتبط بها من دول تجعل من تلك التنظيمات بديلاً لحضورها أو همينتها الميداينة، وذلك على غرار الحركات الإرهابية وتنظيمات الإسلام السياسي. واللعب على وتيرة الأمن الإنساني كذريعة للسطيرة والهيمنة غير المباشرة، ناهيك عن تهميش دول القلب والثقل لدول المحور والعالم ككل، وتعهيد المنظمات الدولية الكبرى، وفي مقدمتها الأمم المتحدة والترويج المكثف لبعض القيم والاتجاهات وتسيسها، حيث لا تقتصر على الجوانب السياسية والاقتصادية فقط، بل تمتد أيضاً إلى المجالات الاجتماعية والثقافية وتحويل البيانات الخام والمعرفة إلى ذكاء نهائي لتحكم بالقرار الدولي تحت مضلة تعزيز التنسيق والتعاون العالمي بشأن القضايا المتعلقة بالأمن الصحي والبيئي، وعند دمجهما معاً يشكلان أهم التحديات الأمنية المستقبلية.
كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات