كلما تراجع سعر صرف الليرة وارتفع الدولار إلى سقف جديد، كما يحصل حالياً في لبنان، حيث تجاوز «دولار بيروت» مستوى 11.3 ألف ليرة، وهو متجه نحو مزيد من الارتفاع مع استمرار الأزمة السياسية والانتفاضة الشعبية. يصاب اللبنانيون بحالة شديدة من «الذهول»، ويسارع المسؤولون إلى اتخاذ إجراءات أصبحت وصفة دائمة ومكررة ومملة. ويصدر رئيس الجمهورية ميشال عون تعليماته (كما حصل في اجتماع بعبدا الأخير) بالقبض على الصرافين، وإقفال منصات التسعير والطلب من البنك المركزي اتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف تدهور الليرة. لكن تبقى النتيجة من دون تحقيق الهدف المنشود، تحت سقف الدستور والقوانين التي تكفل حرية تداول النقد الأجنبي، تنفيذاً للنظام الحر الذي يعتمده لبنان في اقتصاده «المدولر» بنسبة 75%. 
ومع معرفة السياسيين، بأن المشكلة الحقيقية تكمن في تداعيات «الإفلاس السياسي»، ومخاطر «الدولة الفاشلة»، بسبب المنظومة السياسية التي تقف عاجزة عن تشكيل حكومة انتقالية من أخصائيين غير حزبيين لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة، ولاستعادة ثقة اللبنانيين والمجتمَعين العربي والدولي، ولفك العزلة عن لبنان.. تمهيداً للنهوض باقتصاده. يلاحظ أن بعض هؤلاء السياسيين وأصحاب المصالح الخاصة، يجهدون في التحليل «المؤامراتي» من جهات خارجية، لشرح أسباب تدهور سعر الليرة.
وفي مراجعة للمسار الذي سلكه «دولار بيروت»، يلاحظ أن الخط البياني لارتفاعه لا يرتبط عضوياً بالتطورات السياسية الإقليمية، بل يتأثر بأداء حكومة حسان دياب «المحكومة» بقرارات المنظومة السياسية المهيمنة عليها. ففي مارس 2020 ارتفع الدولار إلى 2750 ليرة بعدما أعلنت الحكومة تعليق دفع سندات اليوروبوندز. وفي أبريل ارتفع إلى 3800 ليرة مع إقرار خطة شركة «لازار» التي تقضي باقتطاع 61% من الودائع، وحذف رساميل المصارف، لتغطية «فجوة» الخسائر المقدرة بنحو 62 مليار دولار. وفي يونيو سجل قفزة كبيرة إلى 9200 ليرة، متأثراً بتطورات سياسية سلبية داخلية. وفي حين كان يتوقع المراقبون ارتفاعاً في شهر أغسطس الذي شهد انفجار مرفأ بيروت، لكنه تراجع إلى 7650 ليرة بعد استقالة حكومة دياب.
واللافت أن كل هذه التطورات السلبية لم تمنع تحويل الأموال الخارجية إلى لبنان، والتي بلغت نحو 7 مليارات دولار، معظمها كان بعد انفجار المرفأ. هذا مع العلم بأن هذا الرقم يزيد قليلا عن متوسط التحويلات خلال السنوات العشر الماضية والبالغ حجمها 6.9 مليار دولار. إلا أن الفرق هو انتفاء عامل الاستثمار من التحويلات الجديدة بسبب انعدام الثقة وعدم القيام بأي إصلاحات. وبما أن أغلبها من مغتربين يساعدون عائلاتهم المحتاجة، وتبرعات للجمعيات، لذلك فهي تعكس الانهيار المعيشي وتفاقم الفقر. وكنتيجة طبيعية لانعدام الثقة بالقطاع المصرفي الذي صادر ودائعهم، فقد ذهب أكثر من نصف هذه التحويلات إلى خزائن أصحابها في منازلهم، ليصبح مجموع مالديهم نحو 11 مليار دولار.
ورغم أهمية هذه التحويلات، وتراجع فاتورة الاستيراد إلى النصف، سجل ميزان المدفوعات عجزاً بلغ 10.5 مليار دولار مقارنة مع 3.4 مليار دولار عام 2019. وهو ما يعكس تراجعاً كبيراً في دور لبنان الاقتصادي وعلاقاته العربية والدولية، خصوصاً لجهة جذب الرساميل والاستثمارات، وبما يؤكد مدى أهمية العلاقة الوثيقة بين خطورة هذا العجز وتدهور سعر الليرة.
وهكذا خسر لبنان ثقة الداخل والخارج، وهو يدفع ثمناً غالياً لممارسات منظومته السياسية الفاشلة، ولن يحصل على أي مساعدات أو استثمارات ولو بدولار واحد، مع استمرار هذه المنظومة في إرسال الإشارات السلبية إلى محيطَيه العربي والدولي. 

*كاتب لبناني متخصص بالشؤون الاقتصادية