قبل بضعة شهور استغليت الفترة الوجيزة لتواجد طبيب أميركي محترف لإجراء عمليات لجراحة العظام داخل الدولة، وذلك لعلاج والدتي من مشاكل مزمنة في الركب، حيث إنه صاحب ابتكار في مجال طبي يتعلق بجراحة العظام. وهذا الطبيب المشهود له بالبراعة، يأتي إلى الإمارات فترة لا تتجاوز الثلاثة أسابيع في السنة، مع طاقمه الطبي الخاص، لإجراء التقنية الجديدة التي ابتكرها لعلاج المفاصل. في البداية اعتقدته كبيراً في السن وتخيّلتُه صاحب عيون زرقاء وشعر أشقر، لكني فوجئت بكنيته العائلية التي تشير إلى أنه من الجزيرة العربية، فهو ينتمي إلى قبيلة خليجية معروفة، ويتحدث باللهجة الخليجية، وكان في العقد الرابع من العمر، فكيف أصبح أميركياً؟ سألتُه هذا السؤال فقال إنه كان من فئة «البدون» في موطنه الأصلي بإحدى دول الخليج، ونظراً لتفوّقه الدراسي سُمح له بدراسة الطب محلياً على نفقة الحكومة، وتخرّج بامتياز مع مرتبة الشرف، الأمر الذي شجّعه على متابعة تحصيله العلمي واستكمال مسيرته الدراسية العليا في الولايات المتحدة، حيث حصل على منحة دراسية من الحكومة الأميركية، ثم استقر هناك وحصد جوائز عدة نظراً لنبوغه ولعطائه الطبي في مجال تخصصه، وتم منحه الجنسية الأميركية، وهو اليوم يقدم خدماته على مستوى العالم. وبعد انتهاء حواري معه تمنيت له المزيد من التوفيق وتساءلتُ في نفسي: ألم تكن بلاده أولى به؟
قد يقول قائل: إن هناك آلاف الأدمغة العربية التي هاجرت إلى الغرب وأبدعت في مختلف المجالات وأخذت الجنسية الأجنبية، فلماذا يتم استثناء الخليجيين؟ هذا صحيح، فأغلب تلك العقول العربية رحلت طواعيةً وإن كان بعضها لم يحصل على الفرص الكافية لتقديم إبداعاته في وطنه، فقرر الهجرة لعله يجد في الغرب تقديراً واحتضاناً لمواهبه. لكن مثل الطبيب الخليجي الزائر الذي ذكرته هنا، فهو شخص مبدع ومبتكِر يصعب عليه العيش بلا هوية، والخليجيون بطبعهم يطلبون العلم والخبرة في الخارج، لكنهم بعد الحصول على مرادهم يعودون أدراجهم لتقديم خدماتهم، باستثناء مَن كانوا بلا جنسية.
ليس المقصود هنا تناول موضوع فئة «البدون» في الخليج العربي، فهذا موضوع قديم وشائك ومعقد، وكل الدول الخليجية تحاول جاهدةً إيجاد الحلول المناسبة له. وأعتقد أن القانون الجديد الذي أصدرته دولة الإمارات العربية المتحدة لتعديل أحكام الحصول على جنسية الدولة سيعطي دافعاً إيجابياً وحافزاً للاجتهاد من أجل التحصيل العلمي والمهني والفني وغيره من أجل اكتساب الجنسية الإماراتية بالطرق المشروعة. فهذه فرصة بالنسبة للجميع لإثبات أنفسهم وللبرهنة على أن إمكانياتهم لا تقل عن غيرهم، علماً بأن قانون اكتساب الجنسية لكل من قدّم خدمات جليلة ليس بالأمر الجديد بل هو موجود منذ قيام دولة الاتحاد، لكن الإمارات اليوم لا ترى نفسها في منزلة أقل من الدول الغربية المتقدمة، لذلك نجدها تطرح قوانين مثل هذه ذات بعد إنساني، فهي توازي هذه الدول وتتفوق عليها في بعض المجالات، حيث استطعنا في الإمارات تحقيق منجزات عدة على الأرض وفي الفضاء، كما بتنا نتصدر إقليمياً دول المنطقة في مؤشر الابتكار العلمي. فدولة الإمارات غنية بتنوعها جغرافياً واقتصادياً وسياحياً وثقافياً وبشرياً، وهذا التنوع خلق تنافسية إبداعية ساهمت في تقدم الدولة. وعندما نمنح جنسيتنا للمبدع والمبتكر الراغب في الحصول عليها فالمصلحة هنا تنعكس بالفائدة على الجميع.