الأحد 12 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

خطّ ذروة القصيد أو مسار اللاّمرئيّ

خطّ ذروة القصيد أو مسار اللاّمرئيّ
12 أكتوبر 2023 02:42

بقلم: سيلفي بيسّون
ترجمة: أحمد حميدة
لقد جاءت أعمال غبريال أرنو- لوجاك مدموغة بختم الحميمي، طافحة برغبة الحفر في المبهم وبكشط العالم بيد صارمة ورشيقة، طالما سرى في تلك اليد إحساس بالإشراق، أي متى نفث فيها الشّاعر نفَسَه المضطرم... الحارق لجلدته، من فرط إحكامه القبض على الشّجيرة المشتعلة، وإنّها ليد مسكونة برهبة بالغة، إذ هي تنفتح بعناد حدّ انبجاس الدمّ، حدّ تخوم الجراح الغائرة، حدّ الإنهاك الذي يطال الحبر و«صدى الصّمت»، كيما تتحرّر من عسر الفضاءات المتقبّضة، فلا تتردّد حينها في مقاسمة انكساراتها كما ضياءها المستعاد. فمنذ الصّفحات الأولى من كتابه «أبعد من أيّ مكان آخر»، تفترض الكتابة ذاتها على السّطح المرهف لكياننا مثل انفتاحة على المراوغ، فيما تشدّد الكلمات على الضّرورة المطلقة في أن نظلّ على قيد الإنصات لذبذبات الوجود: «حيثما يمّمت، كنت لا أرى غير عالم بمعابد من ظلال، وظلّ الغياب وهو يغشى كلّ ذرّة من الوجود...». 
قصيد سيمفونيّ
وبوصفها سرداً شعريّاً أو قصيداً سيمفونيّاً، تتحيّز كلمات غبريال أرنو- لوجاك خارج الدّروب المطروقة، في زمن متفلّت من الحواجز وفي مكان لا أثر فيه لإحساس بالعزلة، هناك!... لا تخضع اللّغة لأيّ شكل من أشكال التقييد، فيجتمع عندها الماضي والحاضر... الماضي والمستقبل، في لغة تكون دوماً موتّرة بين ما ولّى وانقضى وما هو آتٍ، بين الكينونة وعدمها، فتغدو الكلمات هكذا طليقة وقادرة على الإمساك بالرّموز، فيما يسعى الخطاب، بفعل نفَس خاشع وجريء، إلى إزاحة كلّ إحساس بالارتياع وإلى إنعاش النّفس المترهّلة، وبالنّهاية، تحويل اللّيل إلى فجر: «كلّ يوم أجعل اللّيل مبيضّاً/ ولشعلة الذّهول الصّاعق... أشعل ذهب الزّمان/ ولطلاوة الجمال وحروقاته العابرة/ أعانق الكون في انخطافة وميض من الأبديّة». ولذاك الحضور المبهم، والظلّ العامر بالضّياء... تراسل -أثناء السّقوط وبعده- مع تجربة الامتلاء ذاتها، تراسل كفيل بإبداع هندسة لا حدّ لها... وعي بتناهي الأشياء، ينبغي أن ينهض فيه بالضّرورة رجع للصّدى.
ولكنّ الأمر يتعلّق أيضاً، بالنّسبة للشّاعر، بالتّأكيد على خيمياء التّسامي، تلك الخيمياء التي لا تزال تغذّينا بلطافتها، وتضع الشّعر والحبّ حيث ينبغي لهما أن يكونا، كيما تسري رعشة في الزّوايا الأكثر حميميّة في كينونتنا وتنبثق في أوج الخطاب. ويدرك الشّاعر الذي لا يني يتردّد بين النّفحات الباطنيّة، أنّ الخطاب الحيّ والمنعش يؤشّر إلى ولادة مشتركة للمطلق. هكذا... فإنّ شعره لن يرتاع... لا من الفكرة ولا من الحضور مع الذّات، بل إنّه سيسمح للعمل الشّعريّ بالتحوّل إلى ما يشبه التّعويذة، التي عوض أن تنغلق على ذاتها، يغدو بإمكانها الانفتاح على أيماّ شيء آخر غير الذّات، طالما أنّ الشّاعر يشقّ طريقه نحو التزهّد، أي نحو صيغة حاسمة لكينونته، بارجاع كلّ ما ينطوي عليه اللاّمرئيّ، كلّ ما يحمل تلك الطّاقة الكامنة في الظّلمة والصّمت، نحو ذلك الضّياء الشّفقيّ الذي تلامسه بشكل مفارق الكلمات، وذلك عبر استحضار ما كان دوماً هنا، والذي لا يكون بوسعنا العثور عليه من جديد إلاّ بالإمعان في التأمّل: «لقد غدا ملاذي هو الإقامة في اللّيل، داخل كوخ بجوف الرّوح، في فضاء قدّ من حسن وبهاء، يحفز إلى الخلوة والانزواء». 

النّفَسَ الشّعريّ 
ويعيدنا كلّ شيء إلى الماضي المجيد، إلى وجود ما قبل الوجود، إلى ما يتجاوز حدود اللّغة. قد نرغب في ذكر هذا المقطع أو ذاك، ولكنّنا قد نكون ذهلنا به عن البريق المنبعث من تأليف موسيقيّ مكتمل، يتردّدُ تردّدَ نشيد موهوب للحبّ، وهو الدّليل الوحيد وسط حالة من التآلف المثير... حبّ يستدعي في خضمّ الصّمت، صوتاً سابقاً، صوتاً لا تنقضي دلالته... إنّ النّفَسَ الشّعريّ لأشبه بنفس الموسيقيّين، نفس يتلمّس بصورة موصولة صوتاً أكثر إرهافاً وبدائيّة، أكثر عضويّة، صوتاً يسبق حالة البلوغ الصّوتي، ويدفعنا إمّا نحو الموسيقى الآليّة أو إلى التّأليف الموسيقي: «إنّي لألتمس جلال أدائه الذي يبتلعنا في وحدة لا انفصام فيها ولا شيء يستثنى منها، وهو الصّدى، أي الذّكرى التي تكون فد انبعثت فينا بفعل حالة الامتلاء، أي تلك الذكرى التي تكون دوماً بحاجة إلى أن تولد من جديد (...) إنّي لألتمس موسيقى الأجرام المحفورة على قرص ذهبيّ... لا حدّ لأخاديده !...».
وبالنّتيجة، يبدو أنّ كلمات الشّاعر تنسلّ من الصّوت الوامض للحبّ الذي تسمح به الكتابة، في صمت يدندن كعلامة انتماء إلى عالم آخر، ويغشى كالظلّ العيون المفتّحة لذاك الذي يجهل مدى دنوّه منها ويذهل عن مدى عمقها، هو حينئذ عالم ينهض مواجهاً للّيل، كيما يرنّ ويتردّد بأمل واعد بالعودة. وهذا ما يجعل أرنو- لوجاك، الجريء والميّال إلى التأمّل، ينحت عنواناً الأماكن اللاّمرئيّة، عسى يده تلتقي بوجه كونيّ يحاول الإفصاح عن شفافيّة اللّيل، لذا... سيكون بحاجة إلى تحرير يده، وتعريتها حدّ العظم، كيما تصبح الكلمة مذهولة، ويصبح بوسع الكتابة استعمال الكلمات كدرفات مرتجّة، لتمنحنا ضوءاً غريباً... مضيئاً ومظلماً في آن، فضاء نتلاشى فيه، لتعمّر حالة الابتهاج الغامر التي تسمح لنا في ذات الوقت بأن نجوس على الجمال وبأن نُسمع. 
وهكذا... فإنّ البحث عن الوحدة، كما التّساؤل وروعة محبّة تظلّ غامضة، تحتفر الكلمات وتعثر في نسيج الاستعارات على لغز يتردّد تردّد الصّدى، وفي ذلك النّفس تكمن شعلة... وحده الأفق اللاّمحدود يهب الشّاعر متعة عبور لغته الخاصّة، حقيقته الفرديّة، كمشهد حالم، حيث ينسرب في الآن ذاته ما يجلّ عن الوصف، في مسار كشف، وفي أغوار الكائن، «في جوف الأرواح التّائهة عن وطنها، والتي تدرك أنّها ليست من هنا ولا من أيّ مكان آخر...».
الكتابة الرّحيبة
إنّ الكتابة الرّحيبة واللاّمعة، تتابع طريقها من طرف إلى آخر، وهي تنشر الإشراق بذات الدقّة رغم مرور الظّلال، ويدوّي الصّوت بالكلمات ليفصح عن ألغاز روح تندفع نحو عالم قد نشتهي إعماره بكلّيته، بتناقضاته، بممكناته ومستحيلاته، طالما أنّ الصّور تتوارد علينا مثل الصّور الأولى لمصباح سحريّ، صور ولادة أبديّة. ويمزّق البصر المنفتح على أناشيد الظّلال.. الإيهام والتّلبيس، ويسمح بانبثاق فكر لا يخشى مواجهة اللّيل الدّاكن وانقداح شرارة من الحقيقة: «ينبغي لي أن أنبعث من جديد من ذلك النّبض الثّابت الآن. الزّمن الذي هدرته وأنا أبحث عن زمن مفقود، بل زمن ما كان موجوداً من قبل. أن أنهض، وأشيد نفسي في الفراغ بدافع ضرورة يأس مخلّص: أن أتخلّص من أوهامي عن الآخر.. عن نفسي وعن الأبديّة». 
حينئذ.. لا يمكن للصّورة أن تنفصل عن التّجربة المتوهّجة، إنّها صورة من الشّهادة التي تمنحنا تمشّياً شعريّاً، «حيّز لا عنوان له، نتبدّد فيه بأعين مغلقة، في كلّ الحقائق الظّاهرة المنذورة للتّلاشي»، إنّها لحالة تجلٍّ حقيقيّ، حالة كشف نابض بإنسانيّة عاقلة ومؤثّرة، إحساس شغوف بلغة سابغة وأصيلة، تنتفي في غيابها الحكمة الخالصة. وهذا ما يجعل التّسامي نحو الحضور الآنيّ للذّات شبيهاً بحالة الانشطار، عبور إلى ما يشبه «اللاّمكان»، حيّز يغدو الشّاعر فيه انعكاساً للآخر، كما لو أنّ ضياء الباطن والظّاهر، بات فيه كلّ منهما رجع صدى للآخر. إنّه يرى الآخر في هذا العالم، وخارج هذا العالم، والذّات الفرديّة ذاتاً أخرى، في ذاك العالم الحقيقيّ بصورة أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©