السبت 11 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

مها بوحليقة.. السارد خارج الحكاية!

مها بوحليقة.. السارد خارج الحكاية!
11 مايو 2023 01:22

بقلم: زينة الشامي*

على مدى 27 نصّاً تأخذنا الكاتبة مها علي في جولة عجيبة داخل عوالمها التي قد تتقاطع حيناً مع عوالم تخيلناها يوماً ما أو عشناها، وقد تتوازى حيناً آخر مع كلّ ما نعرف.
الكتاب صغير في حجمه، حيث لم يتعدّ 146 صفحة من القطع المتوسط، وقد طبع بخطّ واضح تسهل قراءته حتى على أصحاب النظر الضعيف، وهذا أمر يحسب ولاشكّ لدار النشر، كما أن اللغة صحيحة، حيث إننا لم نتعثّر بأي خطأ مطبعيّ أو لغويّ. صورة الغلاف التي جاءت بخلفية بنية وأشكال دائرية وكأنها تدخلنا متاهة، ولكنها في ذات الوقت ترأف بنا من ضياع قد تهدينا إياه تلك الدوائر المربكة التي تكاد تبتلعنا، غير أنّ وجود فرشاتين بلون أسود ولون أحمر قد يطمئننا ويحمينا من التوهان.. فهل تشير الكاتبة إلى عوالمها منذ البدء؟ خاصة وهي التي رسمت صورة الغلاف ووقعتها باللغتين العربية والإنجليزية موحية بأنها تتأرجح بين ثقافتين، أو فلنقلْ منفتحة عليهما دون ادعاء لصراع ما قد يحلو للبعض التورط فيه!
لقد بدا لي العنوان غريباً! «معادلة من الدرجة الأولى بمجهولين» فهل نكون أمام لغز رياضيّ؟ هل سأكون كقارئ مطالباً بأن أحل المعادلة؟! ما علاقة لوحة الغلاف بالعنوان؟ هذان المجهولان مَن هما؟ هل أكون أنا القارئ طرفاً في المعادلة؟ هل أكون فرشاة من الفرشاتين؟ هل تشركني الكاتبة منذ العتبة في خلقها؟
بصراحة أنا من الذين لا يُقبلون كثيراً على قراءة القصة القصيرة لأني أعتقد أنها واحد من أصعب الفنون السردية ولا يُرضي رغبتي إلّا القليل منها، ورغم ذلك فقد أقبلت على المجموعة لثقتي في عمق إبداع صاحبتها.
الإهداء يثير الفضول ويغري بالاستكشاف بحثاً عن هذا «الأنت»، وعن سؤاله الأزليّ، وتلك النقاط الثلاث كمن يعِد ولا يفي فنحمل فضولنا ورغبتنا في كشف التفاصيل وندخل عوالم الكتاب.
السارد غير العليم
 كان السرد في معظم القصص بضمير الأنا، ولكنه لم يكن دائماً ذاك السارد العليم، بل نراه في أكثر من قصة يُفاجأ بمصيره ويصدم بنهايته مثلما نفاجأ تماماً.
أحصينا 16 قصة جاءت بلسان المتكلم يغلب فيها المؤنث على المذكر، حيث وردت 11 قصة بلسان أنثى وقصتان فقط بلسان رجل، و3 قصص بلسان متكلم لم يحدد. ولعلّ الكاتبة تعلن صراحة أنّها لا تتملّص من جنسها ولا من قصصها، فهي الكاتبة الأنثى ولا تسعى إلى أن تكون محايدة أو ممسوحة الهوية، وربما جاء هذا التضخيم من الأنا الأنثى موائماً للموضوعات المطروحة أو المشاهد المرسومة على طول هذه القصص القصيرة. وحضر ضمير «الهو» 7 مرّات، حيث كان السارد من خارج الحكاية وكان بطلها رجلاً. ومرّة أخرى نرى أنه لا يمكننا الجزم بأننا أمام راوٍ عليم يعرف كل شيء عن شخوصه فنكاد نراه يتحرك معنا ويلهث مثلنا متتبعاً خطوات البطل، ساقطاً أحياناً مثلنا في ارتباكاته. ووجدنا أيضاً راوياً من خارج الحكاية، والبطل امرأة وكان ذلك في قصص ثلاث، وكأنّ الكاتبة تفضل أن تتكلم هي باسم الشخصية إذا كانت امرأة. قصة قصيرة جداً كانت عبارة عن خطاب لـ«أنت» لا نعرفه، رسالة من الكاتبة الساردة - البطلة إلى «أنت» هي وحدها من يعرفه ويحدد ملامحه، لكننا مع ذلك نشرك أنفسنا في لعبتها ونحدد لنا «أنت» (مخاطباً) وحدنا من نعرفه! فنؤلف نحن أيضاً حكايانا ونتخيّل رسائلنا. وهذا ذكاء من الكاتبة، أن تورطنا هذه الورطة اللذيذة!

حدود المكان والزمان
طغت على الكتاب الأماكن المغلقة التي لا تريد أن تصرف نظرك عن الفكرة بتتويهك في مكان متّسع قد يأخذك بعيداً عن الفكرة، فتنوعت الأماكن بين المكتب والمرسم والمكتبة والحافلة والسيارة والبيت والمركز التجاري.. الخ!
أما الزمان فأعدّه من نقاط القوة في هذه المجموعة، فنحن لم نرتبط بزمان معيّن إلّا فيما ندر «قصة 1943-2022»، وعلى رغم ذلك فنحن نشعر بأننا نمضي في زمن نعرفه، عشناه أو نعيشه أو من الممكن أن نعيشه يوماً ما، فهذا التحرر من زمن بعينه يحرّر الشخوص والقارئ من حدود أزعم أنّ العمل ككلّ أراد الفكاك منها والتحليق في فضاء أرحب، أو على الأقلّ هذا ما وصلني وهذا ما وجدت نفسي متحرّرة منه.
الشخوص المتلاشية
ما يحسب، في رأيي، لهذه المجموعة القصصية أنها راوحت بين الحضور الطاغي لشخصيات قصصها وبين غيابها أو لنقلْ تلاشيها، كما قالت الكاتبة في ص 146: «لقد تلاشى» أو في قصة «لوحة بلا توقيع»، حيث حضر البطل الرسام ليغيب في عدم لم ندركه ولم تدركه الساردة إلا في النهاية. وكذا الأمر في قصة «نساء كبيرات» فلم نعرف ما موضع الساردة من هؤلاء النسوة ولم ننزعج من ذوبانها فيهنّ وذوبانهنّ فيها.. وكذا الأمر في أغلب القصص، فالشخصية تمثّل فكرة تراودنا تطلقها الكاتبة وترميها بين أيدينا فنلبسها من نشاء وما نشاء.
القضايا - الأفكار
هذه المجموعة على صغر حجمها ألقت أمامنا أسئلة من الصعب حصرها وتعدادها، أسئلة وجودية عميقة بعيدة محيّرة توقفنا أمام حظّ أو.. مجهول أو معادلة بمجهولين أو أكثر، ونحن نقرأ هذه المجموعة سنخرج ولاشكّ مبللين بعرق الأسئلة والحيرة المشروعة أو اللازمة كي نحقق إنسانيتنا:
ماذا لو سرت في اتجاه آخر؟ (معادلة من الدرجة الأولى بمجهولين/ سلمى وأنا/ مشاعر/ مأزق عائليّ/ أزمة قلبية/ ستارة صابر/ برزخ/ لماذا أنا هنا؟ (محطّة).. في كلّ هذه القصص على تنوعها نقف على عتبة أسئلة نبحث فيها عن حقيقة كينونتنا: من نحن؟ ماذا لو كنت غيري؟ ماذا لو لم أكن؟ لماذا أنا أنا؟
ذاكرة.. مَن؟ 
الذاكرة.. هذه الفاتنة المراوغة المخاتلة حاضرة وبقوة في هذه المجموعة ولم تكد تخلو منها قصة، وشكّل حضورها محوراً في كثير من القصص مثل: معادلة/ حياة حافلة/ لوحة/ سلمى وأنا/ نساء كبيرات/ تنمّر/ أزمة قلبية/ المكتبة/ انقطاع التيار! وقد تمازجت ذاكرة الكاتبة بذاكرة السارد بذاكرة الشخصية أو المكان، لنكتشف أن هذه الذاكرة هي بعض من ذاكرتنا نحن الجيل الذي عايش تحولات كبرى وعرف «نساء كبيرات» وملأت أنفه رائحة البخور والعطور والطيبة، الجيل الذي جال في «مكتبة» يحرسها عجوزان، الجيل الذي عشق القمر وأصغى إلى حكاياته! وتجلّت لنا المرأة في كلّ أحوالها، بضعفها (معادلة من الدرجة الأولى- العروس) وقوّتها (نساء كبيرات)، بفنّها (لوحة بلا توقيع)، بإبداعها (بنت أفكاري/ كان ياما كان)، بمعاناتها في مجتمعها ونضالها كي تكون جزءاً حقيقياً منه وفاعلاً فيه ( تعايش/ تنمّر)، المرأة ذات الجسد الحاضر (مأزق عائلي)، المرأة المحبوبة التي لا تنسى (ميرة في «أزمة قلبية»)، المرأة الرمز في أكثر من قصة، لعل أبرزها «مشاعر» وهكذا فقد رأينا المرأة بكل وجوهها.
كاتبة تونسية

 

سريالية وعالم أكثر حقيقية
بعض القصص مالت إلى سريالية، إن صحت العبارة هنا، فما عدنا نفصل بين عالم حقيقي وآخر متخيّل أو ربما أكثر حقيقية، فسِرنا في أحلام وخيالات مع أطياف نعرفها ولا نعرفها، وهذا ما جعل تصنيف هذه المجموعة ضمن نوع أو مدرسة أدبية بعينها أمراً صعباً. ولعل هذا وغيره ما أعطى لهذه المجموعة نكهتها اللاذعة اللذيذة التي لا تشبه نكهة أخرى غيرها.
• التحوّلات الاجتماعية والجيوسياسية (انقطاع تيار/ مشاعر).
• العلاقات الاجتماعيّة المتشابكة المعقدة التي فيها من الحب ما لا ينسى «أزمة قلبية» ومن الكره أيضاً «تحويلة»! 
•سبر النفس البشرية بكل خيرها وشرها ورضاها وغضبها.. هذا السبر نجحت فيه المجموعة نجاحاً جلياً وأقنعتنا من دون ترهُّـل أو إطناب غير محمود بكل ما كان يعتمل في الشخصيات من مشاعر متضاربة هي مشاعرنا نحن، وتناقضاتنا نحن؟ فمن منّا لم يشتهِ أن يكون محبوباً بين الرفاق يقبلون عليه بالتحايا والبسمات؟ ومن منا لم يغر يوماً من رفيق أو قرين وبذل جهداً للتفوق عليه؟ ومن منا من لم يحزن لأنّ ظرفاً ما غيّر مسار حياته؟ كلّنا عشنا مثل هذه المشاعر وتذوقناها بحلوها ومرّها، واستعدناها ونحن نقرأ هذه المجموعة القصصية. وهي بهذا التصوّر انعكاس لنا بشكل ما أتقنت الكاتبة نقله وعرضه أمامنا.
الأسلوب واللغة
مثلما تنوعت الفكرة في هذه المجموعة تنوعت أيضاً الأساليب واللغة، ولعلّ من أقوى ما حققته الكاتبة من اشتراطات القصة القصيرة هو الصدمة، وحتى يكون للقصة القصيرة أثر فلابد أن تصدم قارئها وتستل منه شهقة حارة أو فاترة.. وهذا ما أبدعت فيه الكاتبة بذكاء تغبط عليه، فلم تخلُ قصة أو لا تكاد من دهشة أو صدمة أو مفاجأة تجعلنا نبتسم أو نغضب أو نشهق... والمهم أننا لا ندخل القصة ونخرج منها كما دخلنا، وهذه عبقرية القصة القصيرة، وهذا ما يجعلها فنّاً صعباً، وما يجعل قراءها أكثر تطلّباً. وقد أحببت في القصص خفة دم وسرعة بديهة ونفَس سخرية يظهر ويختفي كطفل يتسلّى من خلف ستار.
وبدت بعض النصوص مغرقة في شاعريتها، حتى كادت تتحول إلى قصيدة مثل («عوالم موازية» و1943-2022) اللتين اختفت فيهما القصة أمام القصيدة. وفاجأتنا بعض النصوص وعلى رأسها نص «مواطن صالح» بأسلوب ذكّرنا بالمقامات لما فيها من سجع وحرص على فِقَره وظرف عباراته وتصويره. 
أما في قصّة «كان يا ما كان»، فاعتمدت الكاتبة أسلوباً خاصّاً يعتمده الكتاب كلما أرادوا العبث مع شخصياتهم أو الشكوى المبطنة من تعب الكتابة، فاستدعت شخصياتها وأدخلتنا بأسلوب سينمائي إلى حلبة صراعها مع تلك الشخصيات التي تريد التمرد عليها. وهذا التصوير السينمائي رأيناه في بعض القصص الأخرى التي اعتمدت المشهد السريع.
اللغة جاءت بهيّة فصيحة مفهومة دون إسفاف، عميقة دون تعقيد، ممتعة في كل حالاتها. وراهنت الكاتبة في أحيان كثيرة على القارئ الذكيّ، وتوجّهت إليه دون القارئ العاديّ الذي يطلب وضوحاً أكثر في بعض الأحيان وفي بعض القصص.
وفي الختام أقول: سعيدة جداً بباكورة أعمال الكاتبة مها عليّ بوحليقة، آملة، بل متفائلة أنه سيكون لها شأن في مصالحة القارئ مع القصة القصيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©