الخميس 2 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«العمى».. متى يفقد البشر البصيرة؟!

غلاف الرواية
22 أكتوبر 2022 00:36

سلطان الحجار (أبوظبي)

«العمى».. الرواية الأبرز للكاتب البرتغالي «جوزيه ساراماغو».. صدرت عام 1995، وتُرجمت إلى الإنجليزية بعدها بعام.. تتحدث عن وباء غامض يصيب إحدى المدن، حيث يصاب أهل هذه المدينة بالعمى فجأة، ما يخلق موجة من الذعر والفوضى العارمة، ويزداد الوضع مأساوية حين يتخلى الجيش عن الحشود العاجزة والواهنة، ما يؤدي إلى سيطرة العصابات على ما تبقى من طعام ودواء، ليبدأ الناس في الاقتتال فيما بينهم. 
الوباء غير معلوم الأسباب، ويُصيب العمى تقريباً كل السكان في مدينة مجهولة، ما يترتب على ذلك من تفكك المجتمع بشكل سريع، نتابع مأساة مجموعة من الأشخاص الذين كانوا أوائل المصابين بالوباء، وتركز الرواية بشكل خاص على طبيب وزوجته، حيث إن العديد من مرضى الطبيب وأشخاصاً آخرين يتم احتجازهم سوياً بمحض الصدفة، وبعد قضائهم فترة طويلة وصعبة في الحجر الصحي، يترابط أفراد المجموعة ويصبحون عائلة واحدة تقاوم وتدافع وتحاول النجاة، ويخدمهم الحظ بوجود زوجة الطبيب التي لم يصبها الوباء ومازالت قادرة على الرؤية في مجموعتهم، لكنها لا تفصح عن ذلك.
هنا ترصد الرواية تجربة الشخصيات الأساسية عندما يتم احتجازهم في مبنى مزدحم مع بقية المصابين بالوباء، مع افتقاد النظافة، وتدني المعايير الأخلاقية بشكل مروع، وكل ذلك يعكس طبيعة المجتمع في الخارج.
القلق على مدى توافر الغذاء، الناجم عن سوء تنظيم طرق التسليم، بالإضافة إلى محاولات زعزعة النظام وخلق أجواء النزاع، وعدم وجود نظام يكفل تساوي الأفراد في حصص الغذاء والمهام المطالبين بتنفيذها، كما أن الجنود الذين تم تكليفهم بحراسة المبنى والحرص على سلامة المحتجزين، يصبحون عدائيين بشكل كبير عندما يصيبهم المرض واحداً تلو الآخر، حتى إنهم يقومون بإطلاق النار على حشد من المحتجزين الذين كانوا ينتظرون تسلّم المؤن الغذائية.
تتفاقم الأوضاع، عقب فرض جماعة مسلحة السيطرة على المؤن الغذائية، للتحكم بمصائر المحتجزين الآخرين وتعرضهم للاغتصاب والتجويع، ولمواجهة المجاعة، يقوم المحتجزون بحرق المبنى، ليكتشفوا بأن الجيش قد تركهم ورحل، عندها يقوم أبطال الرواية بالانضمام لحشود العميان في الخارج، وهم يتجولون في المدينة المدمرة ويحاربون بعضهم للنجاة.

«المرض الأبيض»
تتابع الرواية مسيرة زوجة الطبيب أثناء مرافقة زوجها وعائلتها، ومحاولاتهم النجاة خارج أسوار المبنى، حيث تقوم زوجة الطبيب بالدور الأعظم في رعايتهم جميعاً، خاصة وأنها قادرة على الرؤية، ومع مرور الوقت ينهار المجتمع بشكل شبه كامل.. القانون والنظام، الخدمات الاجتماعية، الحكومة، المدارس... كل هذه الأمور تصبح غير ذات أهمية.. العوائل تفرقت ولا يستطيعون إيجاد بعضهم بعضاً.. تراكمت الحشود في المباني وأصبحت تختلس الأغذية.. أصبح التكيف البشري مستحيلاً في ظل المرض، العنف واليأس. 
الطبيب وزوجته وعائلتهما الجديدة يتمكنون في نهاية المطاف من المكوث في منزل الطبيب وجعله مسكناً لهم، مع إقامة نظام جديد لحياتهم تزامناً مع رحيل الوباء عن المدينة بالطريقة الغامضة نفسها التي حدث بها.
كانت زوجة الطبيب هي الشخصية الوحيدة في الرواية بأكملها التي لم تفقد بصرها، ولا يتم تفسير سبب هذه الظاهرة حتى نهاية الرواية، وبما أنها غير قادرة على مفارقة زوجها الذي سوف يتم احتجازه، تقوم بالكذب على الأطباء وتتظاهر بالعمى، لكي يتم إدخالها للمبنى واحتجازها مع بقية المصابين بالوباء، بمجرد دخولها الحجر الصحي، تحاول المساعدة في تنظيم المُجمع، ولكنها سرعان ما تصبح غير قادرة على كبح الطبيعة الحيوانية لقاطنيه، خاصة وأن أحد عنابر الحجر حجب الغذاء عن البقية، وطالب قاطنوه بالثمن لحصول البقية على الغذاء، هنا تقوم زوجة الطبيب بقتل زعيم العنبر، وبمجرد هروبهم من الحجر الصحي، تقوم بمساعدة مجموعتها للبقاء على قيد الحياة في المدينة، وتصبح زوجة الطبيب الزعيم الفعلي للمجموعة الصغيرة، رغم أنها في حقيقة الأمر تقوم غالباً بتلبية احتياجاتهم نتيجة إعاقتهم.
أما الطبيب فهو استشاري في طب العيون يصبح على نحو مفاجئ أعمى عقب معالجته لأحد مرضاه بالوباء الذي يُسمى فيما بعد «المرض الأبيض»، وهو من أوائل الذين أُقتيدوا للحجر الصحي، ووفقاً لخبرته الطبية يصبح لديه نوعاً ما سلطة على الموجودين في الحجر الصحي، كما أن العديد من الشخصيات الرئيسة الأخرى سبق لها زيارة عيادة الطبيب قبل بدء انتشار الوباء، ونتيجة كون زوجته لم تُصب بالوباء، تكون قادرة على مشاهدة مايحدث في العنبر ونقله لزوجها.

على شاشة سينما
تحولت الرواية إلى فيلم تم إنتاجه في كندا عام 2008، حمل اسم «Blindness»، وهو من إخراج فرناندو ميريليس، وبطولة كل من الممثلة جوليان مور، ومارك روفالو، ويائيل غارسيا برونيل، وداني جلوفر، وتم عرضه للمرة الأولى في افتتاح مهرجان كان السينمائي في العام ذاته، غير أن الفيلم لم ينقل أحداث الرواية في المجمل وشهد خروجاً عن نصها في محاور عديدة، منها أن ظاهرة العمى تجتاح مدينة في دولة البرازيل بشكل رهيب وبالتحديد في مدينة ساو باولو، حيث تصبح هذه الظاهرة خطراً على المجتمع، ويحاول كلا من الدكتورة «جوليان مور» والطبيب «مارك روفالو» حل هذه الظاهرة الخطيرة.
ورغم أن هناك بعض الروايات عصية على السينما بسبب خصوصية أسلوبها الذي ربما يعتمد على الذهنية المفرطة، لكن المخرج البرازيلي فرناندو ميرياليس، قرّر خوض تحدٍّ مع نفسه لتحويل رواية ساراماغو «العمى» إلى شاشة السينما، وجاء إنتاج الفيلم مشتركاً بين جهات عدة هي (البرازيل واليابان وكندا وإنجلترا)، وبميزانية بلغت 25 مليون دولار.
وتبدأ أحداث الفيلم، بإصابة رجل آسيوي بالعمى أثناء قيادته للسيارة، ليتوقف في الإشارة الضوئية الحمراء، تخضّر الإشارة ولا يتحرك بسيارته، ويتسبب في تعطيل الطريق، فيقوم رجل آخر بمساعدته وإيصاله إلى أحد العيادات الطبية ثم يقوم بسرقة السيارة، وتتواصل الأحداث المنفصلة إلى أن يصاب طبيب العيون «مارك روفالو» بهذه الحالة الغريبة من فقدان البصر.
تتوالى الأيام والليالي وتتوالى الضحايا في هذه المدينة، ومن بينهم فتاة، وطفل، ولصّ، وموظف، حتى يطال المرض عدداً هائلاً من ساكني تلك المدينة، وتعلن السلطات عنه كوباء من الدرجة الأولى يستلزم الكثير من الأبحاث والدراسات لمعرفة ماهيته وأسبابه وعلاجه، وتخرج وزيرة الصحّة لتعلم المواطنين باتخاذ الاحتياطات اللازمة كافة للحد من انتشاره، (لتصاب هي نفسها لاحقاً بالعمى).

قشرة الحضارة
وعن أسلوبه في تناول الفيلم، يقول المخرج ميراليس: «لا أحاول شرح ما أحبّه في الرواية أو كيف سأحكيها.. كل ما أستطيع قوله إنني أخذتها بعيداً عبر رؤية تنقل العمل من الفضاء الروائي إلى السينمائي، من خلال التركيز على فكرة فقدان البشرية للبصيرة قبل البصر، وكيف أننا ما زلنا على قدر من الحيوانية المغطاة بقشرة الحضارة، والتي سرعان ما تسقط عنّا، ويسقط معها المنجز الإنساني، وتحديداً في إصرارنا على تخريب هذا الكوكب الذي يحملنا بصبر، وقد ضاق ذرعاً بنا».
وقد لجأ المخرج إلى أسلوب الكاميرا الذاتية، وربما أراد ميراليس من خلال تلك التقنية الوفاء لرؤية ساراماغو الذي يختم روايته، بقوله: «لا أعتقد أننا أصبنا بالعمى، بل نحن عميان من البداية.. حتى لو كنا نرى، لم نكن حقاً نرى».

قضية إنسانية
مثل كل أعمال ساراماغو، لا توجد أسماء لشخصيات رواية «العمى»، وعوضاً عن استخدام الأسماء يتم الإشارة للشخصيات عن طريق تسميات وصفية مثل «زوجة الطبيب»، «لص السيارة»، «الأعمى الأول»، «الصبي الأحول» و«الفتاة ذات النظارة السوداء»..
حتى المدينة التي يحدث فيها الوباء لا يتم ذكر اسمها، وكأن ساراماغو لم يكن يعني بروايته مجتمعاً معيناً، هو أراد أن يتناول قضية إنسانية قد تحصل في كل مكان وفي كل زمان.
وتبرز «النزعة» السياسية لساراماغو في نقد الدولة الحديثة حيث تظهر «السلطة» عاجزة عن مواجهة هذا التحدي الغريب، فتلجأ للعنف المفرط في محاولة إيقافه مع تخبط إداري وفوضى عارمة، فقد مارست التضليل مع الناس وأوهمتهم بالسيطرة على الوباء إلى أن أصيب مذيع الأخبار ذاته بالعمى، وكأن الكاتب هنا يحاول أن يُعري السلطة من خلال منصاتها الإعلامية المضللة.
وفي النهاية المفتوحة، يختم ساراماغو روايته البديعة، بعد أن استغل هذه الفسحة الروائية ليرسم الشكل المزري للمجتمع وهو يواجه جائحة مفاجئة في ظل نظام تقليدي رتيب عاجز عن مواجهة الأزمة، وتعيد هذه الأحداث الروائية إلى الأذهان ما يعيشه العالم اليوم في ظل جائحة «كورونا»، في محاولة للإجابة عن السؤال الجوهري الذي ناقشته الرواية، وهو «ماذا سيحصل للإنسانية لو داهمها وباء لم تعرف له علاج، ولا تدري ما تصنع لإيقافه؟».

ساراماغو
جوزيه دي سوزا ساراماغو (16 نوفمبر 1922 - 18 يونيو 2010)، روائي وكاتب أدبي ومسرحي وصحفي برتغالي، حائز جائزة نوبل للأدب 1998، مؤلفاته تستعرض عادة أحداثاً تاريخية من وجهة نظر مختلفة تركز على العنصر الإنساني.. بيعت أكثر من ميلوني نسخة من رواياته في البرتغال وحدها، وتمت ترجمة أعماله إلى 25 لغة، وكان يرى أن الحب يعتبر وسيلة لتحسين الوضع الإنساني. 
كان ساراماغو قد كتب جزءاً ثانياً لرواية العمى عام 2004، بعنوان «البصيرة»، وتُرجمت للغة الإنجليزية، وتدور أحداثها في البرتغال وتضم الكثير من الشخصيات التي تواجدت في الجزء الأول، وفي عام 2007 تم تنظيم عرض مسرحي لرواية «العمى»، أُقيم في مدينة نيويورك على مسرح (59E59 Theaters).
ويعتبر ساراماغو، أيقونة من أيقونات الأدب المعاصر، فهو المشاكس السياسي المعارض دوماً فقد تم نفيه إلى جزر الكناري، بعد غضب الكنيسة الكاثوليكية عليه، وبقي فيها حتى وفاته عام 2010.. أعماله مثيرة دوماً للجدل ومُنع بعضها من النشر، مثل «الإنجيل يرويه المسيح»، وصدر له عام 2018 كتاب «دفتر سنة نوبل» والذي ظهر للنور بعد تسلمه للجائزة بـ 20 عاماً، وكان قد ترك مخطوطته في يد زوجته بعد وفاته.
ومن أهم أعماله، «أرض الخطيئة 1947»، «قصائد محتملة 1966»، «هذا العالم والآخر  1971»، «أمتعة المسافر 1973»، «البصيرة 2004»، «الذكريات الصغيرة 2006»،  و«مسيرة الفيل 2008»، وغيرها.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©