الأحد 5 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الفن متحولاً إلى نكتة صادمة

الفن متحولاً إلى نكتة صادمة
11 يونيو 2020 08:15

أظنه كان ربيع 2017، عندما التقيت بديفيد تشرني للمرة الأولى، يومها كنت في متحف الفن الحديث بمدينة أولوموز التشيكية، أحاول اكتشاف روح المدينة التي سيطول مقامي فيها، وفي غمرة هدوء المتحف، وصمت الأعمال الحديثة، لم أستطع إلا أن أنجذب إلى صخب فرادة عمل «تشرني»، الذي حمل عنوان «آدم»، وأنا أتعرف عليه من خلال ذلك العمل كفنان معاصر، ساخر، بموقف قوي، وصوت خاص، وفائض من المعنى، عمل «آدم»، ذاك لم يكن سوى محاكاة لفكرة آدم الإنسان الأول، لكن في ظل ما يطال كل الأفكار والفنون والحكايات البعيدة، من ابتذال في زمن حداثتنا المفرطة، كان عبارة عن أجزاء متباعدة في كيس بلاستيكي تجاري، لكأنه لعبة من تلك الألعاب التي عرفناها صغاراً، ونحن نقوم بفتح الكيس لنجمع الجسد ونصنع الكائن البلاستيكي المصمت خاصتنا، فما الذي أراد أن يقدمه «تشرني»؟ فإلى جانب ابتذال الحداثة المفرطة التي سلعت كل شيء، كان الفنان يقدم تصوراً ساخراً للمنحى التجاري، الذي أصبحت تتناول فيه جميع الفنون حول العالم، وآدم الأجزاء في الكيس البلاستيكي ذاك ما هو إلا نكتة تتهكم على رداءة الذائقة الفنية، مقارنة بالأرقام الفلكية التي تباع بها الكثير من أعمال اليوم، تلك السخرية اللاذعة أحالتني لعمل شهير من أعمال فنان البوب آرت البارز «آندي وارهول»، لم يكن سوى علبة مسحوق غسيل حمل اسم «Brillo Box»، ليسألنا «وراهول» «ما هو المعنى الحقيقي للفن؟، وما هو المقياس الحقيقي الذي يفصل بين ذلك الجيد من الرديء منه؟» 
أعود إلى عمل «آدم» «تشرني» في عزلتنا اليوم، وأنا أفكر به وحيداً في متحف كان قد أغلق طويلاً، بسبب الحجر الصحي للوباء، آدم وهو يحملق مفكراً في أجزائه المتوزعة في ذلك الكيس البلاستيكي، متوازياً مع تفكيرنا في صمتنا، في وحدتنا مع الهواجس، أجزاءً متوزعة منفصلة في أكياس الحداثة البلاستيكية –بيوتنا- ونتسائل، وقد تكون هنا مرة التساؤل الأولى لكثر،عن الجدوى الحقيقية لوجودنا، متجردين من كل الانشغالات والشوارع المزدحمة والمجاملات الاجتماعية والعبارات اليومية المبتذلة التي تتكرر من دون وعي، نعاود وصل الفكرة بالفكرة في سبيل المضي نحو ذلك المعنى الفرداني الخاص لكل منا، في الوحدة، في العمق السحيق منها.

  • فرويد المعلق

 
اقتحام اليومي 
تخرج الفنان التشيكي «ديفيد تشرني» في أكاديمية الفنون والمعمار، في براغ عام 1992، وبعد معرضه الأول سنة 1993، اكتشف «تشرني» أن القاعات والمتاحف المغلقة النخبوية هي ليست حصراً لعرض الفن المعاصر، وأن الفن الحديث هو اقتحام للعالم اليومي في حكاية الحداثة الآخذة بالتشكل بسرعة مكوكية، الأمر الذي جعله يغادر تلك القاعات إلى فضاء المدينة الحيوي، صانعاً عوالمه الفنية بالتوازي مع عوالم الكائنات اليومية، ينتشلها من لهاثها، ويضعها هكذا فجأة أمام رسالته الصارخة، يجعلهما يتوحدان في ثوانٍ قليلة قد تسمح بإثارة شرارة المعنى، ففي كثير من المواقع الحيوية من العاصمة التشيكية براغ، تتوزع أعمال «تشرني» الساخرة والباهرة في آن، لكأنها تمد لسانها للعالم، بدءاً من رأس كافكا الضخم الذي يتحرك بأجزائه بين الضوء والظل، في رمزية لأمزجة «كافكا» الحادة، والتي انعكس كثيرٌ منها على أعماله الكابوسية، وصولاً إلى فرويد النحاسي المعلق في هواء المدينة، لكأنه راية، تذكر المارين أن الخارج لا يعدو إلا انعكاساً للداخل، في تأرجحه المقيم دائماً بين الحياة والموت، والخوف من خسارة الأولى بأقل امتلاء، والوصول إلى العتبة الأخيرة بفائض من الخسارات، لعله أيضاً من خلال فرويد المعلق يحاول أن يعيدنا إلى أسئلة الطفولة، استناداً إلى نظريات فرويد، فهل بدأ خللنا الحداثي من هناك؟ من طفولة لا نصغي لعثراتها كما ينبغي؟ 
من الأعمال المثيرة لتشرني أيضاً، هناك عمال الأطفال، الذي يتكون من أربع منحوتات برونزية ضخمة لأطفال رضع يحبون، وهم يرفعون رؤسهم للأعلى في سبيل الرؤية، وما أن تستدير نحو تلك الرؤوس، محاولاً أن تتبع موضع نظرة الأطفال حتى تصدمك وجوههم، التي تم مسحها لتحل محلها علامات «الباركود» التجارية المتعارف عليها عالمياً، والفنان يشير إلى فقدان الفرادة التي حولتنا جميعاً لمجموعات رقمية، حيث اضمحلال الإنسانية الحية المتمثلة في الملامح والأصوات لتحل محلها سلاسل رقمية متفاقمة، نتحدثها جميعاً، دون وعي حسي عميق بمكوننا الإنساني، يجد كثر ذلك العمل مزعجاً، ويتحاشون غالباً الاستمرار بتأمل وجوه الأطفال الممسوخة، لكن هذا الانزعاج سيصحبه سؤال «لماذا»، الذي سيكون حتماً هو ما أراده الفنان، وهو يمد لسانه نحونا ساخراً بتلك المنحوتات الصادمة. 

  • الأطفال.. عمل فني لـ تشرني

عمل الأطفال المربك، يحيلني إلى عمل آخر، هو العمل الضخم الذي حمل عنوان المسدسات، والذي أتى ليتكون من أربع منحوتات لمسدسات سوداء عملاقة، تصوب جميعها لذات النقطة في زاوية في المنتصف، وتتبادل هي بذلك التصويب لبعضها البعض أيضاً، تشعر وأنت تشاهد هذا العمل، بأنك خائف ومهدد من عدو خفي، ويرعبك أكثر أن هذا الشعور مألوف جداً في داخلك دون أن تعي، أنت الذي تشعر بالتهديد الدائم في وسط هذا التسارع المقيم في العالم، وفي خضم الصراعات التي قد تسلبك أمانك في لحظة خاطفة، المفارقة في أن تلك الأسلحة الضخمة، تستهدف أيضاً بعضها البعض، في إشارة لعبثية الصراعات المسلحة التي لا يخرج أحدٌ منها بانتصار قاطع.
«ديفيد تشرني» هو فنان يؤكد جدوى الفن كعامل يومي مؤثر، من خلال السخرية والصدمة لتحريك مياه السؤال الراكدة، وهو حتماً، حتى وإن خرجت ممتعضاً من بعض ما يقدم، سيجعلك تراجع تعريفك للفن ومعناه، خارج إطاره الذي حصره كثر داخل الصالات المغلقة دون تأثير، الفن الذي أشار إليه الفيلسوف الألماني هيدغر، بقوته التأثيرية على الذهن، أكثر مما يمكن للحقائق المجردة أن تفعل.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©