الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الغيطانييلبي «هاتف المغيب»

الغيطانييلبي «هاتف المغيب»
19 أكتوبر 2015 01:34
إيهاب الملاح (القاهرة) بعد أكثر من شهرين أمضاهما مناضلاً وصامداً في معركته الأخيرة مع المرض، توفي الكاتب والروائي الكبير جمال الغيطاني عن سبعين عاماً، ولفظ أنفاسه الأخيرة صباح الأحد (18 أكتوبر) بمستشفى الجلاء العسكري بالقاهرة، وشيعت جنازته في اليوم ذاته من مسجد السيدة نفيسة. ورغم أن الشارع الثقافي المصري كان متابعاً للحالة الصحية للكاتب الكبير بكثير من الاهتمام والدعاء، فإن خبر وفاة الغيطاني قد خيَّم بسحابة حزن واسعة على المثقفين المصريين والعرب. المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة أصدر بياناً نعى فيه الراحل الكبير: «ينعى المجلس الأعلى للثقافة الأديب الكبير جمال الغيطاني الذي أثرى المكتبة العربية برواياته التي ترجمت إلى اللغات العالمية، وأثبتت تفرده الإبداعي وريادة مصر الثقافية، كما كتب الكثير عن رحلاته وعن القاهرة وعن البشرية جمعاء، وعن رؤاه العميقة»، وقال أمينه العام أبو الفضل بدران إن جمال الغيطاني «ذاكرة مصر التي نقل كنوزها الثقافية إلى العالم من خلال أدبه ومحاضراته العميقة». وأصدرت الهيئة العامة للكتاب، التي كانت أصدرت قبل أشهر طبعة جديدة من الأعمال الكاملة للكاتب الكبير، بياناً نعت فيه الغيطاني، جاء فيه على لسان رئيسها الدكتور هيثم الحاج علي: «تنعي الهيئة المصرية العامة للكتاب الكاتب الكبير جمال الغيطاني الذي أثرى الحياة الثقافية والأدبية، فهو روائي وصحفي مصري صاحب مشروع روائي فريد استلهم فيه التراث المصري ليخلق عالمًا روائيًا عجيبًا، يعد اليوم من أكثر التجارب الروائية نضجًا، انفتحت تجربته الفنية في السنوات الأخيرة على العمل التليفزيوني مع المحافظة على نفس الملامح التي نجدها في الرواية، إذ كشف النقاب عن عالم آخر يعيش بيننا من المعمار والناس». أيضا صدر عن ورشة الزيتون الإبداعية، واحدة من أعرق الفعاليات الثقافية الأهلية في مصر، برئاسة الكاتب والناقد شعبان يوسف، بيان مطول نعت فيه الغيطاني، ونوهت فيه بمشواره الفني والأدبي: «تنعى ورشة الزيتون الكاتب جمال الغيطاني، الذي رحل عن عالمنا اليوم، وتتقدم بكامل الأسى للشعب المصري والعربي بالمواساة في ذلك الفقد المهول، مقدرين جهد الرجل الأدبي والثقافي والإبداعي والفكري والصحافي عبر مسيرة تتجاوز نصف قرن من الزمان». وأوضح البيان : «ذلك العطاء الذي قدّمه الراحل في ظل ظروف وملابسات خاصة وعامة مدهشة، لقد قاوم جمال على المستوى الخاص تيمة الفقر التى كانت تهيمن على أسرته، واستطاع أن يحوّل تلك المتاعب إلى سرديات عظيمة، ولم يكن مناخ القمع الذى تعرض له -على المستوى العام- سوى تفاصيل مهمة فى كتاباته». وتطرق البيان لكشف بعض من جوانب إبداع الغيطاني والمؤثرات العامة والخاصة التي لعبت دورها في هذا الإبداع «وكانت واقعة اعتقاله في عام 1966 ملهمة له ليكتب وينشر مجموعته القصصية الأولى المدهشة «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، ويستدعي التاريخ كعنصر حاسم في قراءة الحاضر وربما المستقبل». جمال الغيطانى لم يكن يستدعي ذلك التاريخ، كنوع من الرمز أو التورية، ولكنه كان يرى التاريخ حلقات متضافرة ومتماسكة يكمل بعضها البعض، لذلك جاءت «الزيني بركات» بعد «أوراق شاب»، لكي تؤكد تلك الرؤية، والتى تعمّقت فيما بعد في غالبية إبداعاته، وظل الغيطاني مخلصا لرؤيته ولاتجاهه الذي ميّزه عن كل الكتاب المصريين والعرب، وبالفعل استطاعت كتاباته أن تلقى رواجا عربيا وعالميا، وهو رواج تستحقه تلك الكتابات، التي تعتز ورشة الزيتون بأنها كانت مجالا لمناقشة كثير من إبداعات الرجل، بل حظيت الورشة بالمناقشات الأولى لبعض كتاباته مثل «شطح المدينة» التي ناقشها محمود أمين العالم، و«سفر البنيان» التى ناقشها د.شاكر عبد الحميد ود.شيرين أبو النجا ود.فتحي أبو العينين، وغير ذلك من كتابات». واختتم البيان المفصل: «ونحن نودعه اليوم، عارفين بقدره وبقامته وأهمية إبداعه العظيم، ونهيب بالمؤسسات الثقافية الرسمية الكبرى في وزارة الثقافة، أن تجمع تراثه الأدبي والصحافي والفكري وكذلك مخطوطاته، وتجمعها وتنشرها في أسرع وقت، وهذا أقل القليل لما بذله الرجل فى سبيل رفعة هذا الوطن وبنائه». شهادات الأصدقاء هذا على المستوى الرسمي، فيما تحولت مواقع التواصل الاجتماعي؛ «فيسبوك» و«تويتر»، إلى ساحة عزاء افتراضية وسرادق كبير، عبر فيه زملاء وأصدقاء وتلاميذ جمال الغيطاني عن بالغ حزنهم وألمهم لفقده، خاصة بين تلاميذه من الكتاب والمحررين الصحفيين في «أخبار الأدب» الجريدة الثقافية الأشهر التي أسسها الغيطاني عام 93 وترأس تحريرها لأكثر من عقد ونصف. «آلمني خبر رحيل الكاتب والروائي الكبير جمال الغيطاني رحمه الله الذي أثرى المكتبة العربية بعشرات القصص والروايات والكتب التي تشهد له بالأستاذية»، هذا ما كتبه الأستاذ أحمد فاضل في وداع الكاتب الكبير، فيما ودع الكاتب حسن عبد الموجود نائب رئيس تحرير أخبار الأدب أستاذه الغيطاني بكلمتين«حبيبي يا جمال». أما الكاتب والروائي ناصر عراق فقد كتب يقول: «برحيل الروائي المصري القدير جمال الغيطاني (1945/‏‏ 2015) قبل سويعات قليلة تفقد الحركة الإبداعية العربية واحدا من مخلصيها الكبار، ويكفيه فخرا روايته المدهشة «الزيني بركات»، وقد شرفت بالعمل مع الأستاذ جمال في (أخبار الأدب) عام 1998، قبل أن أغادر القاهرة إلى دبي، وقد منحني الصفحة الأخيرة أكتب فيها ما أشاء في الفن التشكيلي، كما دعوته لإلقاء محاضرة عن واقعنا الإبداعي في مؤسسة (ندوة الثقافة والعلوم) بدبي في نوفمبر عام 2012 عندما كنت منسقا ثقافيا وإعلاميا بها. وأذكر أنني جلست إليه أكثر من أربع ساعات على شاطئ خور دبي نتناول عشاءنا ونتحدث في كل شيء، وأشهد أنه كان يجيب عن أسئلتي كافة برحابة صدر مهما كانت شائكة ومحرجة». الروائي إبراهيم فرغلي نعى الغيطاني قائلا: «لا حول ولا قوة إلا بالله، كنت أعيش على أمل أن يعود إلينا بحكاياته، لكنه آثر الرحيل، رحم الله جمال الغيطاني الذي ستعيش سيرته وأعماله معنا وبيننا ما شاء الله». الدكتور أحمد مجاهد، الرئيس السابق للهيئة المصرية العامة للكتاب، كتب على صفحته الشخصية: «البقاء لله وخالص العزاء فى رحيل المبدع الكبير العزيز جمال الغيطانى.. وقد كانت الهيئة المصرية العامة للكتاب هي أول مؤسسة احتفلت بسبعينيته بافتتاح المركز الدولي للكتاب.. وصدور ثلاثة أجزاء من أعماله الكاملة التي ستظل خالدة على مر الزمن.. وخالص العزاء لأسرته الكريمة». شهادات وكلمات رغم بساطتها إلا أنها تعبر عن القيمة الكبيرة للغيطاني ومنجزه، وأعماله الروائية والقصصية، التي عُد الكثير منها من روائع الأعمال الأدبية في تاريخ السرد العربي المعاصر، فضلا عن الأدوار المتعددة التي لعبها الغيطاني في مجالات متوازية، ومنها تأسيسه لجريدة «أخبار الأدب» الأسبوعية، وتخريجه جيلا جديدا من المحررين الثقافيين باتوا ضمن الصف الأول الآن في الصحافة الثقافية، ليس في مصر وحدها بل في العالم العربي كله. القارئ النهم كان الغيطاني من القراء الكبار النهمين، ينقل العدوى ويثير الشهية ويشعل الفضول لقراءة أي كتاب أحبه ووقع في غرامه، وله في ذلك قصص وحكايات، وطرائق وأساليب لعلها من أحسن ما يمكن أن يقوم به كاتب لتحبيب الناشئة والشباب في القراءة وإغرائهم بها ودعوتهم إليها، هذا جهد لم يلتفت إليه أحد ممن كتبوا عن الغيطاني أو حاولوا دراسة جانب من مشروعه، استأثر إبداعه الأدبي بنصيب الأسد من هذا الاهتمام، ولم تنل باقي جوانبه وإسهاماته الثقافية الاحتفاء اللائق والاهتمام المرجو. لكن الكثيرين، وخصوصا من الأجيال الناشئة، قد تنبهوا إلى هذا الجانب في مشروع الغيطاني، فأقبلوا على قراءة كتبه الثقافية والتاريخية والتراثية بشغف كبير، منها مثلا «منتهى الطلب إلى تراث العرب»، و«قاهريات مملوكية»، و«القاهرة في ألف عام»، وكتب أخرى جمع فيها طائفة كبيرة من مقالاته وتحقيقاته الصحفية واستطلاعاته المصورة، وهي التي تشكل في مجموعها مكتبة كبيرة توفر زادا معرفيا وثقافيا لكل راغب أو طالب. وشهادات الغيطاني، التي دونها على مدار عمره عن تجربته الإبداعية وخبراته الحياتية، وتصوراته النظرية للكتابة ولغة الفن والرواية خاصة، كلها من أمتع وأهم ما يقرأه الكاتب الناشئ المقبل على الكتابة، إذ تقدم دروسا باذخة من واقع الممارسة الإبداعية، كما أنها تتخلص إلى حد كبير من التصورات الجافة والمصطلحات المعقدة، ومنها ما سجل فيه الغيطاني بعضا جانبا من حياته وكفاحه الأدبي والثقافي، كما في هذه الحكاية الدالة التي رواها عن نفسه في شهادته السيرية الفاتنة (الإشارات لمعرفة البدايات)، المنشورة ضمن العدد الثالث من «الأدب والحرية»، مجلة فصول، 1991، يقول الغيطاني: «من دار الكتب استعرت «تفسير الأحلام» لسيجموند فرويد، قرأته وشعرت أنني لا بد أن أقتني هذا الكتاب الذي ترجمه إلى العربية الدكتور مصطفى صفوان، وصدر عن دار المعارف. كان ثمنه مئة وخمسين قرشا، وهذا مبلغ جسيم لطالب في المرحلة الإعدادية لا يتجاوز مصروفه اليومي وقتئذ قرشين صاغ فقط، لقد فتح لي الكتاب آفاقا جديدة في القراءة، وازداد تصميمي على اقتنائه، عندئذ استعرته من دار الكتب، وكانت المدة القصوى للاستعارة خمسة عشر يوما، لابد من إعادة الكتاب بعدها وإلا اتخذت إجراءات في منتهى الجدية، أبسطها حرماني من الاستعارة وخصم قيمة الكتاب من مرتب الضامن، كما تقرره لجنة خاصة من دار الكتب، وهذا ما لا يمكن لمرتب والدي البسيط احتماله. هكذا قررت أن أنقل الكتاب كاملا، حوالي ثمانمائة صفحة عكفت على نسخه كاملا، حتى الهوامش المكتوبة بالألمانية والإنجليزية والتي لم أكن أعرف معناها». ربما تكشف لك هذه الحكاية عن الولع المحموم بالقراءة والدأب الذي لازم صاحبه في التحصيل والاستزادة في المعرفة، فكان الغيطاني من القلائل المتبحرين بعمق في فنون التراث العربي، والتاريخ الإسلامي، والتصوف، والعمارة والفنون الإسلامية. لم يكن الغيطاني فقط روائيا مرموقا بين الصف الأول من روائيينا العرب خلال نصف القرن الماضي، بل كان أيضا «مثقفا» بكل ما تعنيه الكلمة، ترك ما سيظل شاهدا على إبداعه وإسهاماته إلى ما شاء الله. أوراق الغيطاني الباقيات إذا كنت لم تقرأ «الزيني بركات» أو «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» فأنت لا تعرف شيئا عن الأدب المعاصر في مصر ولا الرواية العربية الحديثة خلال العقود الخمسة الأخيرة، وإذا كنت لم تسمع بـ«التجليات» أو «هاتف المغيب» أو «وقائع حارة الزعفراني» أو «رسالة في الصبابة والوجد».. فأنت على الحقيقة إذا كنت تدعي صلة ما بالأدب والكتابة، فعليك أن تراجع هذه الفكرة وتعيد النظر في المسألة برمتها! خلال الفترة من سنة 1969 وحتى 2015، ما يقرب من نصف القرن، شكَّلت أعمال الغيطاني الروائية والقصصية مكتبة عظيمة وكبيرة احتلت مكانها ومكانتها ضمن مدونة السرد العربي المعاصر، في ما بعد نجيب محفوظ. ما يقرب من 20 عملا روائيا، أشهرها «الزيني بركات»، وحوالي نصفها من المجموعات القصصية والمختارات، تتربع على قمتها «أوراق شاب عاش منذ ألف عام». بدأ الغيطاني الكتابة في أواخر الخمسينيات، ونشر قصته الأولى عام 1963، ومنذ تلك السنة اتصلت كتابته ولم تنقطع، وتنوع نتاجه ما بين الرواية والقصة والدراسة والمقال والتحقيق الصحفي.. من مجموعاته القصصية «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» (1969)، «الزويل» (1975)، «حكايات الغريب» و«أرض.. أرض» (1976)، و«ذكر ما جرى» (1978)، و«أحراش المدينة مختارات قصصية» (1985). أما رواياته، بعد «الزيني بركات» 1971 و«وقائع حارة الزعفراني» 1976، فمنها: «خطط الغيطاني»، و«كتاب التجليات في ثلاثة أسفار» (1983-1985) و«رسالة البصائر في المصائر» 1989، و«شطح المدينة» 1990، و«هاتف المغيب» 1992، و«متون الأهرام» 1994، و«حكايات المؤسسة» 1997، وخلال الفترة بين عامي 1993 و2005، أخرج الغيطاني سلسلة «دفاتر التدوين»، وهي على الترتيب: «من دفتر العشق والغربة»، «خلسات الكرى»، «دنا فتدلى»، «رشحات الحمراء»، و«نثار المحو». تميزت أعمال جمال الغيطاني الروائية والقصصية، على السواء، بتفاعلها الإيجابي مع الأشكال السردية العربية التراثية، ونجاح الكاتب في بلورة أسلوب ولغة يستمدان أهم مقوماتهما من ذلك التفاعل الخصب، فبرز نتاجه السردي محملاً بطابع من الأصالة ومشحوناً بحس نقدي وأعطى تجربته بعداً خاصاً سواء على مستوى الشكل أو الدلالة. تحركت مجموعات الغيطاني القصصية وأعماله الروائية في مجال رحب، واستكشفت مناطق غير مأهولة في اتجاهات عدة، فبعض الأعمال تتناول وقائع تومئ إلى زمن الكتابة الآنية، ولكنها تنتمي إلى تاريخ مصر في العصر الوسيط، وتتمثل لغة مؤرخيه (خاصة ابن إياس في كتابه بدائع الزهور في وقائع الدهور)، مثلما فعل في «الزيني بركات» التي كتبها في السنوات التي أعقبت هزيمة 67 ووجد ما يوازيها في هزيمة مصر في مواجهة الغزو العثماني الذي اجتاح البلاد عام 1517، نتيجة فساد الحكم الذي اقترن بتسلط السلطة الحاكمة وظلم الشعب الذي لم يجد المأكل والملبس، فضلاً عن قمع المثقفين الذين غيبتهم المعتقلات البشعة. وبجانب الأعمال السابقة، تأتي «خطط الغيطاني» (التي تتمثل لغة شيخ مؤرخي مصر الإسلامية المقريزي في خططه) وبعضها الآخر يتناول وقائع تجنح إلى المراوحة بين الواقع والكابوس، أو بين الحلم والأسطورة لتكثيف عالم حافل بأشكال من وطأة ثقيلة وجاثمة («وقائع حارة الزعفراني» و«الزويل» مثلا).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©