السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صبحي موسى: هذا هو «دون كيخوته» المعاصر

صبحي موسى: هذا هو «دون كيخوته» المعاصر
23 أكتوبر 2013 19:58
تتناول رواية “أساطير رجل الثلاثاء” للشاعر والكاتب صبحي موسى البناء التأسيسي لجماعات التطرف الديني منذ تم الشروع فيه بأربعينيات القرن الماضي حتى نهايات العقد الأول من الألفية الثالثة، حيث مثل تنظيم “القاعدة” خلاصتها، ومن ثم كان المرتكز الأول بناء الرواية، التي رصدت الحرب على أفغانستان وتم تدمير جانب كبير من عناصر “القاعدة” و”طالبان”، وهو ما أودى بأسامة بن لادن إلى نوبة من الهذيان والعزلة في كهف على الحدود الأفغانية ليتأمل تجربته العريضة في الجهاد، وتجربة الخيانات التي حدثت له، وكيف تحول حلمه بإسقاط أميركا إلى لعبة أطفال ينهار خلالها برجا مركز التجارة العالمي. لا يتناول موسى في روايته ما جرى لجماعات الإسلام الراديكالي كتطبيق حرفي لما هو متاح من معلومات، لكنه بحث عن أدق التفاصيل لينسج منها عالماً ثرياً يمزج ما بين الأسطورة والواقع. في هذا الحوار محاولة للوقوف على أهم مفاصل رواية “أساطير رجل الثلاثاء” وتجربة كتابتها: من أين جاءتك فكرة “أساطير رجل الثلاثاء”، وكيف تطورت في ذهنك، ثم كيف تطورت أثناء الكتابة؟ ?? كنتُ ومازلت مؤمناً بأن ابن لادن نموذج فني عظيم، نموذج يشبه دون كيخوته الذي أخذ يحارب طواحين الهواء في ظل يقين جازم منه بأنها أرواح شريرة، وأنه يسير على نهج القديسين المشائين في أعمالهم البطولية الخارقة، لكن سيرفانتس كان يسخر في عمله العظيم من الكتابات التي سادت في زمنه عن هؤلاء المشائين وقدراتهم الخارقة وأعدائهم الخرافيين، أما أنا، فقد حاولت بدرجة ما أن أقدم الواقع كما هو من خلال المعلومات التاريخية، والتحليل النفسي والثقافي لمرجعيات هؤلاء المشائين الجدد ومزاعمهم المقدسة، وهو واقع ومرجعيات أغرب وأدهش من الخيال، ومن ثم فلم أستطع أن أغير مفردة أساطير التي في عنوان الرواية رغم تفكيري في ذلك أكثر من مرة، ولم أستطع أن أصفها بأنها أكاذيب؛ لأن الوعي بأنها أكاذيب لا يدركه في هذه الجماعات غير قياداتها، أو الفاعلين الأساسيين في اللعبة، كنماذج الصباح/ الظواهري، أو خال ابن لادن، وهو شخصية فنية بالأساس، أو أبو سعيد/ عبد الله عزام، أو المجاهدين الأفغان، وغيرهم، أما بن لادن نفسه ففي تصوري كشخصية فنية هو رجل مؤمن بالفعل بهذه الأساطير القديمة، ورغبته في أن يكون أسطورة جديدة على نهجهم، ولا يوجد دافع غير هذا المبرر الرومانتيكي لأن يتخلى شخص عن الجنة التي يعيش فيها ـ حياة القصور وما بها من نعيم ـ كي يقضي نحو ثلثي حياته في بطون الكهوف ووسط واحدة من أقسى أنواع صخور السلاسل الجبلية في العالم، ليس هناك مبرر لهذه المازوخية غير الاعتقاد الجازم بأساطير التاريخ التي سجلها كتاب لا مؤرخون عن رواة تمتعوا بخيال الشعوب البدائية تجاه كل ما هو ميتافيزيقي أو فوق قدرات العقل في التعامل معه، ومن ثم لم يكن أمامي غير التعامل مع ابن لادن بوصفه شخصية فنية فريدة لا أعرف كيف لم ينتبه إليها الكتاب. وكما تعلم أن الإنسان ابن الاحتياج وليس ابن الرفاهية، فلولا أنني كنت في حاجة إلى الحصول على التفرغ ربما ما كنت كتبت عن ابن لادن، ولظل حلماً أو مجرد افتتان فني، فضلاً عن أن احتياجي إلى الحصول على التفرغ جعلني أفكر في جعل الموضوع أكثر صعوبة بما يقنع اللجنة كي توافق على المشروع، ومن ثم طورت الفكرة إلى جماعات الخروج في التاريخ الإسلامي، الخروج بمعناه طلب السلطة أو الحكم، وليس الخوارج، مما اضطرني لعمل بانوراما تاريخية لاستعراض فكرة طلب السلطة تحت راية الدين أو باسمها، فوجدت أن الكارثة أكبر من مجموعة خوارج جدد يرغبون في الوصول إلى الحكم أو اكتساب سلطة على الناس باسم الدين، فقد وصل الأمر إلى أن أهدرت دماء لا حصر لها، وكان من الممكن أن يكون الأمر أقل وطأة لو أن الخروج لم يكن باسم الحفاظ على الدين، ولم يكن الحفاظ على السلطة باسم الدين أيضاً، ومن ثم فقد رأيت تاريخاً دموياً طويلاً يبدأ من أول خلاف عقب وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في سقيفة بني ساعدة، وكان من الممكن للأمر أن يتحول إلى فتنة كبرى ودماء كثيرة لولا حكمة الصحابة في ذلك الوقت، لكن هذا لم يمر سريعاً فقد جاء مقتل عثمان ليفتح الباب على سؤال لم تتم الإجابة عنه حتى سقوط مبارك، وهو كيف يمكن تغيير الحاكم إذا اختلف الناس على أدائه دون أن يلجأوا إلى تكفيره هو وأنصاره، وكيف يستجيب الحاكم لطلب الرحيل دون أن يعلن عليهم الجهاد باسم الحفاظ على دين الله، هذا السؤال ظل مؤجلاً حتى أسقط الناس سلمياً نظاماً عاتياً، ولم يكن قد سقط حتى ساعة الانتهاء من كتابة الرواية، ومن ثم فأنا نفسي لم أطرحه كحل حضاري في ظل ثقافة لا يحدث فيها تغيير إلا من داخلها، وربما بشكل وراثي، أو على نحو يشبه البيعة في عهد الخليفة وعلى يده، وهو ما جعل سيناريوهات التوريث أمر وارد، كما جعل كل الجماعات الإسلامية تقبل بأي شيء ما عدا طرح فكرة الخروج على الحاكم؛ لأن ذلك كفر من جانب، ولأنه لا بد من تكفيره أيضاً حتى يصبح ذلك مسوغاً للخروج عليه، اكتشفت أننا أصحاب تاريخ لا أقول أنه دموي، ولكني أقول أنه عقدي إلى الحد الذي يجعل كثيراً من الرومانتيكيين يفتتنون به فيهدرون دماء كثيرة بلا ذنب طيلة الوقت. التوثيق والخيال ? الشخصيات الواردة في العمل يمكن كل منها أن يشكل بذاته عملاً روائياً، فهل ترى أن العالم السري للجماعات الإسلامية يساعد على ذلك، أم أنك عجلت باختصار الرواية من ثلاثة أجزاء إلى جزء واحد؟ ?? كان المنطق الذي بدأت منه العمل هو فكرة الأساطير، وهذه في حد ذاتها فكرتان، الأولى أن تكون المرجعية التاريخية لهذه الشخوص هي مرجعية أسطورية، أما الوجه الثاني فهو أن تكون الشخوص نفسها أسطورية، أن تكون محملة بخيال وقدرات وطموحات وأحياناً تكوينات فكرية أو جسدية تمنحها صيغة الأسطورية، وهو ما قد يشعر القارئ بأن هذه الشخصية تستحق بطولة في جزء خاص بها، على نحو يشبه رباعية داريل عن الإسكندرية، ويمكنني القول إنني أثناء العمل فكرت في ذلك، فالجزء الأول بطولته كانت للأب محمد بن عوض بن لادن، والثاني كانت فيه البطولة لعبد الله عزام أو «أبو سعيد»، والثالث بشكل أو آخر كان للظواهري، وكان هذا الترتيب أو التثليث من قبيل التقسيم الفني الذي يساعد على إنجاز جزء كل عام يسلم لإدارة التفرغ، لكنني بعد الجزء الثاني شعرت بأمور عدة، أولها أن المادة التاريخية كانت ضاغطة على العمل بشكل واضح، وأنني لا بد من أن أتخفف كثيراً منها، فقد كنت أوردت صفحات من كتب التاريخ ومذكرات الجماعات وغيرها، كانت الفكرة توثيقية بامتياز، لكنني بدرجة كبيرة أكره فكرة العمل التوثيقي، وأشعر بأن الوثائق تخرج القارئ عن الموضوع، وتحول الأمر إلى كتاب علمي، وتحد من قدرة الكاتب على التخيل وتوظيف المادة الوثائقية، الأمر الثاني أنني شعرت بأن المادة التاريخية التي ضمنتها كانت في سردها ولغتها أكثر أسطورية من كتابتي، وأنها بمثابة النص الأعلى والأكثر فتنة، رغم أن أصحابها مؤرخون، وليسوا في حل من الارتباط بالواقع والقدرة على الجنوح بالنص إلى الخيال ككاتب الرواية، كان ذلك بمثابة مفارقة مدهشة بالنسبة لي، ولم يكن أمامي كي أجعل هذا النص عملي الخاص سوى أن أتخلص من حضور كتاب التاريخ العظماء لصالح حضوري كصائغ جديد للتاريخ في إطار فكرة فلسفية يقوم عليها العمل ككل، والنتيجة أنني قمت بإعادة صياغة النص مستعملاً نظرية المحو أفضل من الإثبات، مما أشعر الكثيرين بأنه كان ينبغي الإطالة قليلاً حتى نتشبع بالأمر من جانب وألا تبدو الرواية مكثفة أكثر من اللازم من جانب آخر، لكني كنت قد وصلت إلى درجة من الرضا عن العمل، وكنت أرغب في طرح فكرة جديدة عن الرواية التاريخية، بحيث لا يعيد الكاتب سرد أحداث الماضي، بقدر ما يظهر تأملاته له ومدى حضورها وهيمنتها على ذهنية المجتمع الراهن الذي يكتب عنه، ولا أعرف مدى نجاحي أو فشلي فيما سعيت إليه، لكنني على كل سعيت للاجتهاد، وربما يكون هناك من لديه القدرة على إنجاز كتابة أكثر تماساً وحضوراً وقبضاً على فكرة فلسفة التاريخ أكثر مما سعيت لتقديمها. كذبة صغيرة ? إلى أي مدى يتوافق الأسطوري مع الواقعي في حياة الشخوص؟ ?? من المفترض أن يوجه هذا السؤال بالدرجة الأولى إلى القارئ ذاته، فإلى أي مدى شعر هو بأن التخييلي متوافق مع الواقعي الذي يعرفه عن ابن لادن وجماعته، فمن المفترض أن الكاتب ـ أي كاتب ـ حين يقدم على بناء عمل يمزج فيه ما بين الأسطورة والواقع أنه قدم الحيلة التي لا تشعر قارئه بأن ثمة نتوءاً في الجسر الرابط بين الخيال والواقع، ومن ثم فهو بشكل عام قرر نشر عمله بعد درجة كافية ومرضية من التأمل، وبعد إجابات واضحة لنفسه عن أي تساؤلات من الممكن أن تثار، بمعنى أنه سد كل الثغرات فنياً في النص بحيث لا تثار هذه التساؤلات. لكن دعني أقول أمراً آخر، وهو أن ثمة صعوبة بالغة في الكتابة عن شخصيات واقعية تعيش بيننا، ويتناول الإعلام تفاصيل حياتها كافة، أي أنها شخصية شهيرة ومعروفة للجميع، وذلك لأنه من الصعوبة أن تقنع الناس بغير ما يلمسونه، كما أنه من الصعوبة فنياً أن يكون الكاتب مجرد آلة لتسجل هذه الوقائع؛ لأنه في هذه الحالة لا يقدم جديداً ولا يضيف إلى ما يعرفه الناس، فحين تفكر في أن تكتب عن شخصية كالسادات أو عبدالناصر أو عبد الحيلم أو أم كلثوم، فأنت مرتبط بمنظومة معرفية في أذهان المتلقين لن يسمحوا بالخروج عنها إلا في حدود ضيقة، وإلا فإنك تستغل فقط أسماء الشخوص والأماكن وتكتب عن عالم غير ما يؤمنون به، هنا كانت الصعوبة لدى؛ ولذا فأنت تستطيع أن ترى أن ابن لادن كان هو نفسه الراصد للأحداث، بمعنى أنه هو الذي يحكي عن أصدقائه وعالمه، وكان حضوره يعد حضوراً رمزياً، وتعد أكثر المشكلات التي واجهتني في شخصية أسامة، وهو ما اعتبرته كذبة صغيرة سوف يغفرها لي القارئ إذا استمتع بالنص، أن أسامة لم يتعلم في بريطانيا، وكنت بحاجة إلى تخليقه بشكل أسطوري، وأن أبدأ ارتباطه بالجماعة خارج النطاق الإقليمي، وأن يكون قد صنع على أيديهم بهدوء وروية وكأنهم يصنعون المهدي المنتظر، ولم يكن لذلك أن يتحقق لو لم يوضع في هذا الإطار حسب تصوري، وفي ظني أن الناس يعرفون هذه المعلومة، لكنهم لم يفكروا في معاملة النص من خلال منطق الواقع الفعلي بقدر ما فكروا في التعامل معه من خلال المنطق الذي اشترطه لنفسه فنياً، وعلى كل فقد تخففت من فكرة الأسماء الواقعية لدى الشخوص الشهيرة، كعبد الله عزام ومحمد بن لادن في صدر شبابه والملا محمد عمر وأيمن الظواهري وغيرهم، واحتكمت إلى الأسماء الفنية بما يتيح لي عمل المعالجات الخيالية لأسطرتهم، أما من لم يستدع الأمر وضعهم في هذا المنطق الأسطوري فقد ذكرتهم بأسمائهم الواقعية في إطار سرد لوقائع التاريخية المعروفة والمثبتة عنهم، وهؤلاء كثيرون، لكن البطولة في العموم كانت قد صارت للفكرة وليس للشخوص، وهذا أيضاً جانب من الحيل أو الحلول للتغلب على تلك المشكلة. التشابك والتنافر ? ألا ترى أن هناك تشابكات في نشأة والد ابن لادن ما بين اليمن والسعودية؟ ?? لا أعرف على وجه الدقة ما الذي تعنيه بفكرة التشابك هنا، لكنني أتصور بالطبع أنه لا بد أن يكون ثمة تشابك أساسي بين بلدين لم يكن حتى بداية التسعينيات ثمة إشكالية في أن يجوب أبناؤهما جبال وصحارى ومدن القطرين حسبما شاءوا دون معارضة أو حتى جواز سفر أو تأشيرة دخول أو بطاقة هوية، لأنهم يعيشون كشعب واحد، والحدود بشكل عام في المنطقة العربية مستحدثة وقهرية وما زالت بلدان العالم العربي كما تعرف تعانيها، لكنْ ثمة تشابك مختلف من وجهة نظري أعتقد أنك تقصده، فنشأة الأب بطبيعة أصوله كانت في اليمن، وجاء إلى السعودية وحقق نجاحاً عظيماً بها، وبقى على علاقة طيبة بعشيرته وأهله بعدما انتهت مشكلاته مع الإمام أو غيره، وهو أمر طبيعي لم يكن لي الوقوف أمامه كثيراً؛ لأنه غير مؤثر فنياً، لكن ما لم يكن طبيعياً أن تفكر جماعة “القاعدة” في اليمن بشكل أساس ضمن البلدان التي راحت تدرسها للعودة إليها، أو تحقيق دولتها من خلالها، وكان ملف اليمن هو الملف الوحيد باللون المختلف؛ لأنه الأعمق والأهم من حيث الطبيعة الجبلية المناسبة والارتباط العشائري والأهلي ببن لادن، ومن ثم فهو بالنسبة لهم مكمن أساس لا يستغنون عنه، فضلاً عن أن اليمن ذات موقع استراتيجي لا يقل أهمية عن الصومال، وبعدهما تأتي دول أخرى في الأهمية الاستراتيجية بالنسبة لهم، فما زال خيال القرصنة ذا حضور كبير في أذهانهم، وهذه الفكرة جعلتني لا أستغني عن حضور اليمن في خريطة جماعة بن لادن أو الجماعات الإسلامية الأخرى، فالحرب بين ناصر والبدر كانت مسرح الأحداث بين القديم والجديد، بين اليمين الرادكالي واليسار الناصري، المدهش أن الثورة قامت في مصر واليمن، وكنت أتوقع حسب الملفات التي قدمها شقيق والدة أسامة أن تقوم في الجزائر وليس تونس، كانت تونس خارج سياق فكرتي أو تصوري، لكن المفاجأة أن 80% من بلدان الخريطة أو الملفات قامت بها الثورة، ووصل الإخوان إلى الحكم في مصر وتونس، لكنهم لم يصلوا في اليمن حسب توقعاتي، ربما لأنني كنت أتصور أنه لا توجد معارضة من السعودية للإخوان، لكن هذا ما اتضح لي بعد الثورة، فالسعودية تتعامل مع السلفيين وتكره الإخوان، رغم أن العلاقة في السابق كانت غير ذلك. عالم ملتو ? زخم الشخصيات يمكن أن يشكل للقارئ اضطراباً أثناء تتبع خط سيرها فهل قصدت إلى ذلك باعتباره رسالة إلى أن عالم هؤلاء الناس معقد وملتو وغير واضح؟ ?? هذا جانب مهم من الفكرة، فعالم الجماعات الإسلامية والسرية بشكل عام ملتو وغير واضح ولا تحمل الأسماء فيه أهمية كبرى، بل إنها في كثير من الأحيان مجرد رموز، والمهم في الأمر هو ما يسمونه مشروعاً أو قضية، ويمكنهم أيضاً أن يتنازلوا عن أي شخصية أو اسم أو شكل حال اقتضى الأمر ذلك، ولعلنا مع سقوط مرسي رأينا كيف تنكروا جميعاً، وكيف تبرأوا مما قالوه أو فعلوه أو حتى انتموا إليه، رغم أنه مثبت بالصوت والصورة، وهم في كل ذلك ليسوا كاذبون من وجهة نظرهم، فالضرورات تبيح المحظورات، والتقية مبدأ أساس، وأن يموت نفر من الجماعة كي تبقى هي أفضل من أن يعيشوا وتموت هي، وهذا خطابهم الداخلي لعناصرهم الأقل في الترتيب؛ لأنهم ينصرون الإسلام، ينصرون الديمومة وليس الانقطاع، وهم يحملون أسماء غير التي يتعاملون بها معنا، ويحملون هواتف وأرقام وحسابات ودخول غير ما هو معلن، ليس الأمر في من ولكن في ما، وهذا ما سعيت أن يتعود عليه القارئ، ويتوافق معه. ? غياب المرأة عن معظم أعمالك هل يعني موقفاً ضدها؟ ?? لا أملك من الطاقة الروحية ما يجعلني أتخذ موقفاً من المرأة، على النقيض أنا لا أملك من الطاقة الروحية ما يجعلني أن أعطي المرأة ما تستحقه من الإجلال والتقدير الذين أؤمن بهما تجاهها في كتابتي، لكنني بطبيعيتي الريفية شخص محافظ، ولا أرى أن في تصوير مشاهد الجسد والعري والممارسة العنيفة للحب نوعاً من تكريم المرأة، فهي في نظري أفعال طبيعية، ولا يمكن أن أعتبر زيادة الرصد لدخول الحمام أو تناول الطعام تكريماً للفعل البشري، ومن ثم فالتكريم يتوقف على الدور الذي تلعبه المرأة في حياة الرجل، فشخصية مسعد أبو النور في “صمت الكهنة” تدين بتعليمها وتفكيرها للأم، وهو الأمر نفسه مع ابن لادن في “أساطير رجل الثلاثاء”، وفي المؤلف لعبت شخصية الممثلة الشهيرة محور العمل، كما مثلت شخصية الفتاة المقيمة بحجرة الفنار رحم الحياة بالنسبة للمؤلف، لكنني أعترف بأنني لم أقدم عملاً أساسياً عن المرأة، ربما لأنني دون وعي ما زلت رجلاً شرقياً تسيطر عليه أمراضه الذكورية في الحضور والهيمنة وكونه محور الكون، رغم أن ما تلعبه المرأة في حياته من أدوار وإن كانت أدواراً صغيرة للغاية، إلا أنها مؤثرة فيه وفي تكوينه وطبيعة تفكيره إلى أبعد مدى دون أن يعي ذلك. النواح والبكاء ? المثقف المصري يعيش الآن حالة من الإحباط، هل تظن أنه بالغ في تصوره الرومانتيكي عن الثورة؟ ?? المثقف بطبيعته رومانسي يحب أن يرى الأشياء في شكلها الأجمل، ويسعى دائماً نحو الأفضل مما هو متاح، الإشكالية أن المثقف العربي أدمن النواح والبكاء والتشاؤم، فمن الجيد أن يرى الناس الصورة الحقيقية للأمور، وأن ينتقدوا من أجل الوصول إلى الأفضل، لكن لا ينبغي أن يصل الأمر إلى حد الكفر بما في أيديهم؛ لأنهم يفقدون بذلك كل شيء، فمثلاً حين قامت ثورات الربيع العربي وجدنا مثقفين بدرجة سعدي يوسف وأدونيس وغيرهم يذهبون إلى أنها ليست ثورات لكنها انتفاضات لأنها لم تحقق رغبات شعوبها من اللحظات الأولى، أو لأنها ضلت الطريق عن الأهداف السامية، الأكثر دهشة أنهم برروا تشاؤمهم هذا بأن مؤامرة أميركية هي التي كانت وراء هذه الثورات، وأن ما يجري من تغيرات في المنطقة العربية يصب في المصالح الأميركية التي مولت ودربت ورعت، وهذا تجاوز لفكرة التشاؤم نفسها، وكأننا أصبحنا مرضى بالنحيب والبكاء، مرضى ليس بإحباط أنفسنا فقط بل وبإحباط الآخرين، وهو أمر ضد الميثالية أو حتى الرومانتيكية، لكنه في صميم العدمية التي لا تفعل شيئاً ولا تؤدي إلى فعل شيء، لكنني ما زلت ألتمس للأجيال الأكبر منا عذراً في هذا التشاؤم النابع من الشعور بأن الآخر دائماً قوي وأن بإمكانه أن يدير الكون حسب هواه ورغباته، وعذري لهم أنهم أجيال لم يستطيعوا أن يحققوا نجاحاً سياسياً واحداً يحسب لهم، وأنهم خرجوا من فشل ليدخلوا في فشل، فلا يمكنهم في نهاية أعمارهم أن يسلموا بأن الأجيال الجديدة الذين يرفضون شعرهم وطريقة تعاملهم مع الحياة يمكنهم أن يحققوا ما فشلوا فيه، وأعذرهم لأنهم أصبحوا غير قادرين على الاعتراف بفشلهم، وهو ما يعني دخولهم في مرحلة مستعصية من الصعب علاجها، ومن ثم فلا يمكن تعديل أفكارهم عن الفن أو السياسة أو الثورة أو حتى وهم القدرات المطلقة للآخر الذي هزمهم في كل المواقع طوال حياتهم. ? في ظل الأوضاع السياسية الجديدة لماذا تم تهميش المثقف؟ ?? المثقف لم يهمش ولم تتم الاستعانة به، لكنه أيضاً منذ الستينيات وحتى الآن ارتضى أن يكون تابعاً إما لحزب أو جماعة، ومع طغيان الحزب الواحد فقد ضعفت كل الأحزاب والجماعات، ولسوء الحظ كان هذا الحزب من العسكرتارية قليلي التعليم، ومن ثم فعلاقتهم بالثقافة كانت قليلة، وربما منعدمة، فضلاً عن أن المثقف الخانع في حظيرتهم يفقد مصداقيته لدى الناس، والمثقف الرافض لهم ستكون شهرته بمثابة اللعنة عليه؛ لأنهم لن يقبلوا بنجم لامع عليهم، ولن يسمحوا بمن لديهم قدرة على تكوين خطاب على أرض يحكمونها، ولسوء الحظ أيضاً شاع في سبعينيات القرن الماضي الحديث عن الكتابة من أجل النخبة، والإفراط في المجاز وألعاب اللغة، مما جعل الفعل الثقافي بعيداً عن الاتصال بالشارع وقضاياه، كل هذه الأمور جعلت المثقف، الذي استسلم لقدره، يبدو مهمشاً، وربما مشعوذاً ومجنوناً بحسب النموذج النمطي عنه في الشاشة الفضية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©