الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

استلذاذ البذاءة..

استلذاذ البذاءة..
6 نوفمبر 2014 15:19
الغريب في الأمر أن بيكاسو الذي اعتبره سعيد عقل أكبر مشوه للفن، هو من وهب البشرية أعظم المدارس الفنية في الجمال، والمفارقة الأغرب أن ديكارت الذي سن عقيدة الشك للظفر بالوجود، هو من حولنا عقيدته إلى يقين حاسم، فأين البلاهة؟! لينا أبوبكر الاختلاف هنا ليس على المفاهيم ولا الذائقة بقدر ما هو اعتراض على السير بعكس قوانين الطبيعة وفطرة البشر، بحيث تصبح القاعدة عبئا على الاستثناء، والشذوذ عنها منفذا قانونيا للخلاص منها، ولا غرابة ما دمنا نعيش عصر سينما الخراب والدم والجريمة ما بعد الكاملة، في ال «Sin City 2005 » و ألاعيب الـ «Bruno 2009»، حينها لن تحتاج للبحث عن قيامة تليق بهذا الكفر، لأن الجحيم لن يتسع لكمّ الإثم الفائض من صندوق الأراجوزات السينمائية، وحقول اللبلاب السام في عاصمة الديدان المخنثة: هوليوود! لا للميسوفوبيا! لن تدخل القذارة في نطاق «الميسوفوبيا» السينمائية لأنها الرقية الإبداعية التي تقي مَن لم يصب بعوارضها مِن مقاومتها، وانتفاء الصفة الآفوية عنها هو محصلة شيوعها إلى درجة اعتيادها، والتأقلم معها بميماتها الستة دون تذمر أو استهجان، فهل هزلت! كيف تكتب عن سينما الغرائز البذيئة بكل تفاصيلها القبيحة التي تعرض دون حياء أو اكتفاء بجمالية الإيحاء، ثم كيف بمقدورك ألا تكتب؟ أنت بين عارين إذن، فكيف تقول ما لا يقال، دون أن تمتنع عن قوله؟ رهانك الوحيد على اللغة، لأن اللذة كامنة باشتهاء الكتابة عما هو مستقبح لا مستحسن، تماما كالنبش في تلة من النفايات بقفازة من حرير... مضى الزمن الذي يبحث فيه الكاتب عن لؤلؤة في محارة جريحة، أو قشة خبيئة في كومة شرار، نحن الآن في زمن النفايات السينمائية، والتحدي الأجمل هو أن تتأمل القمامة!! الفارق شاسع بين الأفلام الإباحية والأفلام الغوائية، لأن البذل الإمتاعي في الثانية يجنح إلى الجدية والالتزام بالمعايير المهنية والقيم الفنية، مراهنا على الرؤية الإبداعية للعمل بمستواه الحكائي وحبكه القصصي وتأثيره العاطفي وأدواته الجمالية بعيدا عن الابتذال والإثارة الرخيصة، حريصا على احترام الذائقة والارتقاء بها، لا الانحدار إلى الدرك الأسفل من الرغبات الغرائزية، والشهوانية المقيتة، مما يفسد الوعي ويخلخل البنيان الأخلاقي للفنون ويخذل الغواية!. قذارة قذارة، فيلم بريطاني من إنتاج العام 2013، صنف – ويا لغرابة التصنيف – ضمن الدراما الكوميدية، مستندا إلى رواية تحمل الاسم ذاته «1998» لكاتبها الاسكتلندي «إيرفاين ويلش». جون إس. بيرد كاتب النص السينمائي ومخرج العمل الذي استغرق ما يقارب العام ليعرض في الصالات الأمريكية، وليستحق الرجم بالطماطم الفاسدة بنسبة 63%، مثيرا اشمئزاز عدد من النقاد الذين لم يلمسوا فيه حسا فكاهيا يستدعي زجه في خانة التصنيف الكوميدياني، وقد نوافقهم على هذا لأن الجرعات القذرة المبالغ بها في الكثير من المشاهد لم تثر الضحك بقدر ما أثارت النفور! بطل الفيلم «جيمس ماكافوي»، بروس روبرتسون محقق برتبة رقيب في أدنبرة، شخص مقيت متلاعب، ينصب المكائد لزملائه في العمل، ينتمي إلى نادي ماسوني في اسكتلندا، ويغرق بالعلاقات الجنسية المشبوهة، والكحول والمخدرات، يسعى من خلال هذه الأساليب البلطجية الممنهجة والمزاح الوسخ أو المقالب اللاأخلاقية، للحصول على ترقية لمنصب المحقق المفتش، وقد أوكل إليه مديره مهمة التحقيق بمقتل طالب ياباني، لكنه رويدا رويدا يبدأ بفقدان سيطرته على الواقع، لتنتابه سلسلة من أعراض الهلوسة التي تصل إلى ذروتها حين يدرك البطل البغيض شفير الجنون. الحقيقة أن المشاهد لا يدرك تماما خلطة القصة، إلا حين تتوالى الهلوسات التي تفك شيفرة الحبكة، وتكشف سر الشخصية، خاصة في المشهد الإنساني الوحيد الذي استبسل فيه البطل لإنقاذ رجل أصيب بذبحة صدرية في الشارع، مستعيدا صورة أخيه الأصغر الذي رحل طفلا وترك عقدة الذنب تستبد بروبرتسون، وقد توصل طبيبه النفسي إليها، من خلال جلسات العلاج التي فتحت البوابات السرية وأسقطت «الجدار الرابع» في الكهف الجواني لهذه الشخصية المضطربة، التي تطاوعها الكاميرا وقد تقمصت هلوساتها فنقلت عدواها إلى المشاهد، قبل إزاحة الوجه عن القناع، فزوجته التي تراءت لنا وله لم تكن سواه! ارتدى ملابسها، ووضع مساحيقها، وتقمصها إلى الحد الذي عوض به عن حرمانه منها بعدما هجرته إلى رجل آخر ومنعته من رؤية ابنتهما الوحيدة، وهو الدمج الذي برع المخرج في إيهامنا به، فكان الإيهام البطل الحقيقي للعقدة السينمائية! واضح هو الخوف الذي اعترى روبرتسون من كشف زملائه لحقيقته الشاذة ومشاكله مع عائلته، وهو ما جعله يدعي غير ما هو عليه، بل ويتستر على جريمة مقتل الطالب الياباني كي لا يفضح مثليته الجنسية، لأن القتلة الذين اختطفوه لعلمهم بأنه شاهد العيان على جريمتهم، كانوا من فصيلته، ولم يكن ليكشفهم لولا ذاك.. يخسر ترقيته، ويحظى بها زميله الذي كان ضحية لهلوساته، ثم يهم بالانتحار، ولكنه في المشهد الأخير يسدد صفعة للمشاهد لا تقنعك ولا تشبع اشمئزازك من العمل، بقدر ما تضاعف نفورك، لأن التملص من الانتحار بضحكة دخيلة ومقحمة بفظاظة لا توقظك من غيوبة البذاءة بقدر ما تشعرك بالندم أنك شاركت بهذا الإيهام المجاني الرديء! حصد الفيلم مايقارب الـ (8.280.558) مليون دولار، دون أن يسلم من حملة انتقاد تدين هذه القذارة السينمائية وتستنكر الوقاحة التي غلبت الابتكار كما عبر الكاتب «Geoffrey Macnab» في صحيفة الإندبندنت، علما بأن البعض رأوا في أداء «James Mcavoy» الحائز جائزة الأكاديمية البريطانية عام 2006، قدرة لا يستهان بها، وقد شاركه القذارة كل من Jamie Bell، Imogen Poots، Eddie Marsan. الوصول إلى القمر على الجانب الآخر، ترى فيلم السيرة الذاتية: «الوصول للقمر» 2013، الذي أخرجه البرازيلي «برونو باريتو» المستند إلى كتاب «أزهار نادرة ومألوفة» لكارمن لوسيا دي أوليفيرا، وكذلك عن كتاب للأمريكي مايكل سليدج «أكثر ما أدين لك به»، عن علاقة سحاقية بين الشاعرة الأميركية «إليزابيث بيشوب» (أدت دورها الممثلة الاسترالية ميراندا أوتو) والمهندسة المعمارية البرازيلية «لوتا دي ميسيدو سوارس»، التي يعود لها تصميم حديقة «فلامنغو بارك» في «ريو ديجينيرو»، والتي ستستضيف الألعاب الأولمبية عام 2016، قامت بدورها الممثلة البرازيلية «جلوريا بيريس» بطلة أحد أهم فيلمين برازيليين في كل العصور. حاز الفيلم فرصة العرض العالمي الأول في مهرجان برلين السينمائي قبل عرضه على شاشة مهرجان تريبيكا للأفلام، ومما لا شك فيه أن العمل جاء حقيقياً ومبدعاً على الصعيد السينمائي، ولكنه اختار الانحياز فقط للعلاقة الشاذة بين المبدعتين، مركزا على فترة امتدت إلى خمسة عشر عاما، وقد لا تستغرب وأنت تستشف هوس المخرج بهذا النوع من الأعمال من خلال قائمة أفلامه التي أخرجها في مشواره السينمائي. لن تعترض على التوثيق أو البيوجرافيك السينمائي، لشخصية إبداعية ما، مهما بلغ سلوكها الشاذ، طالما أن السينما لا تمتلك من أمرها شيئا سوى تخيل واقع الشخصية وإعادة تشكيله في بنية رؤيوية لا تصدر حكما أخلاقيا على السلوك بقدر ما تعبر عن موقفها ضمنيا منه. لا شك أن بيشوب تعرضت لمطبات نفسية هائلة في حياتها، ربما كان أكثرها وعورة مرض أمها العقلي، وموت أبيها الذي تركها يتيمة تتنقل بين بيوت الأقارب والمدارس الداخلية وهي تحمل على كاهلها عبء الوحدة والتشرد والضياع، الذي تفلت من دوامته لما تلتقي سوارس، وتقيم معها علاقة عاطفية طويلة الأمد، وهو ما استقطب اهتمام الحركات النسائية التي صدتها بيشوب بعنف وإصرار لأنها لم ترد للجندرية أن تطغى على الإبداعية المتحللة من التصنيف العنصري للأدب، وإن التقت مجازيا مع أيقونة السحاق الشذوذوي: الشاعرة اليونانية «سافو» التي كانت تمارس مثليتها مع النساء اليونانيات في القرن السادس قبل الميلاد، إلا أنها اختارت هويتها الجندرية بحرف طبيعتها البيولوجية عن مسارها الطبيعي، محددة نوعها الاجتماعي بسلوكيات تعاكس كل قوانين الطبيعة وفطرة البشرية وسنة الخليقة. الشذوذ في الحالتين السينمائيتين هنا، هو لعبة استعراضية، تشذ عن القاعدة دون أن تنجح بالاستثناء، لأنها تروج للفساد الأخلاقي بقالبين أحدهما توثيقي والآخر تصوري، لم يشفع له التذرع بالعصاب المرضي الذي يؤدي إلى الانحدار السلوكي، وأنت تراه يقفل الستارة في مشهده الأخير على ضحك أسود، ممرغ بالوقاحة واستلذاذ البذاءة، فكيف تقتنع بالقبح؟ إن الوصول إلى القمر عبر أيقنة السلوك، بعيدا عن أيقونية الشخصية الإبداعية، ما هو إلا شقلبة للانحدار باتجاه معاكس للصعود، يحجب القمر في ظل حفرة انهدامية تؤدي إلى خسوفه الكلي، واختفاء قرصه الشعاعي، فأية صلاة يؤديها أتباع الخسوف على جثة القمر؟ هل نغفر، وبعد هذا كله، لديكارت يقينه بشكه؟ أم نعطي عذراً لسعيد عقل باحتقار الجمال البيكاسوي، كلما أخفق باستدراج اللذة إلى سرير المومياءات الغاوية!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©