الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

روما خطر على السائرين

روما خطر على السائرين
30 أكتوبر 2014 00:14
ترينثي مويكس في سنوات المنفى.. في البيت الإيطالي لرافائيل ألبرتي ورفيقة دربه ماريا تيريسا ليون، كان لي هناك مقعد دائم ومحفوظ. وفي أكثر الأحيان طبق طعام على الطاولة. كانت الزيارات التي تجيء من إسبانيا محدودة تقريباً، فيما كانت مخطوطات ونتاجات وبيانات الكتاب والرسامين الشباب تشغل منضدتين للعمل. أما بالنسبة لوضعي بشكل أدق فإن الألبرتيّيْن هما صديقاي وقدوتي إلى الحد الذي أصبح معه استحضاري لهما لا يتم دون تأثر وانفعال وجداني. كنت أساعدهما في بعض المناسبات وكانا يساعدانني إلى أن اتخذتهما مثل أخوين لي، وقد كنت أتأثر بهما كالتلميذ الطالب للمعرفة والمغرم بمعلميه إلى درجة كبيرة. كان لدعم الألبرتيّيْن لي فضل في تكويني الثقافي، حيث المساندة والرفد، مثلما كان لهما تأثير على تطور جيلي، كنت أراهما نموذجاً وشعاراً ومجداً يمثل إسبانيا (إسبانيا أُخرى)، ترفض وتناضل من أجلنا فيما نحن منهمكون في طلب العيش. في روما.. في محل إقامتهما المتواضع، أكمل الألبرتيّان لي احتياجاتي من معلومات عن دراستي وكانا، بحب عميق، يحلمان لي بمستقبل ناجح. إنني لا أملك ما يكفي ثمناً لهذه الذكريات التي لا تنسى، ولا أنسى قدرتهما على التفهم والتعايش.. حتى أن روما كانت تتكشف خطوة فخطوة لأجل رافائيل ألبرتي، وبينما كنت أنا مشغولاً بهوى المدينة وفتنتها، كان ألبرتي يقوم بنشاط كبير وحركة حيوية لا نظير لها، لقد كان دليلاً لها.. أيام الفوران الهائج في الستينيات حيث يتحسس ما يتصارع بين الحداثة التي اجتاحت ـ عقد الستينيات ـ والأصالة المتواصلة وخاصة في ذلك الحي الذي أقام فيه.. وحتى اليوم، فإن تقييم تلك البيئة المتفردة يكمن في الوصية والشروح لرافائيل والتي انتشرت بشكل واسع إلى كل زوايا روما وأطرافها.. ديوانه (روما خطر على السائرين) مملوء بحكايات يسودها مناخ التوثيق الظريف؛ إضافة إلى قدرته على فن التزيين المسرحي للأفكار والشاعرية الشعبية ـ تماماً كما كان من قبله بيامونتسراتو ـ. الشوارع تشهد على مغامرات السيدة (لوثانا): واحدة من شخصياته المفضلة والمحبوبة وهي كثيرة الظهور في عمله حتى تتحول إلى عاشقة حالمة. لألبرتي كتابان مدهشان يعبران بأفضل طريقة عن طبيعة علاقته بروما ويجسدان حضورها الكلي في كلماته.. يحيطان تماماً بجانب عميق من هذه المدينة الرسامة.. منذ النبوغ الإيطالي بالفنون الجميلة. هذا النبوغ الذي انتقلت عدواه إلى الشاعر كما سبق لها أن مرت قبله على نتاج روسيني ثم استندال. لقد وصف ألبرتي روما بشكل خاص في ديوانه (روما خطر على السائرين) ليكون دليلاً أدبياً شهيراً لطرقاتها. كان الألبرتيان كاتبين مضيئين ساطعين.. وكأنهما قد عاشا حلماً دائماً يمتد من أيام قادش.. حلم دائم ممتد من قبل المنفى وإليه: حلم اللعب في الغابات النائية. سوف يبقى ديوانه (روما خطر على السائرين) كتاباً يضم أحلام أهالي روما القابعة في مخطوطات المدينة؛ حيث أسرار الحكايات الإيطالية المسلية (لفيكولي) أكثر عمقاً وسخاءً في المخيلة الثرة و(البوبولانة) حفلة القطط السائبة في الشوارع، قمامة أسماك المرجان، حوريات البحر الهائلة، الكاردينالات الجشعون، فسقيات الفضة المملوءة بالبول الليلي والصدأ.. كل ذلك يغلي في روما التي تتميز بعراقة أسطورتها الخاصة.. النقاء والحثالة، الخلاعة والتعقل، الثرثرة والصمت.. إنها مزيج من المتناقضات ومن الأزمنة التي عُمدت وصيغت في قالب شعري ذي سحر وفتنة لا تُقاوم.. صاغها الفنان الذي استقام في الاتجاه الأوروبي وغاص حتى الأعماق، راجعاً إلى مرح السهرات والاكتشافات التي تتلاقى مع كل ما هو إنساني في أصله: «روما خطر على السائرين حاول ألا تنظر إلى تماثيلها. افتح مائة عين وازرع مائة شبكية وكن دائماً عاشقاً لحجارة الشوارع. حاول ألا تنظر إلى العجائب الكثيرة: النافورات، القصور، القباب، الخرائب لأنك قد تلقى ألف ميتة مباغتة وإذا كنت آتياً لترى فانظر إلى اليمين، إلى اليسار.. إلى الحارس قف عند ما هو عالٍ وتقدم صوب ما هو قادم امشِ على حبل بحماسة وحذر. وإذا أردتِ الحياة فارجعي أيتها الحمامة، وإذا أردتَ الموت فتعال أيها السائر إلى روما .. إنها روح منفتحة.. روح مفتوحة وواسعة». وحتى عندما تموت تلك الأزمنة القديمة، كما يحدث عادة، وتبقى تلك الأحشاء غير المناسبة لروما فقط.. فإنها ستمتلك زينتها، وجمالية تعلن أن روما ستواصل حيازة الألق بفضل رافائيل ألبرتي.. ولا أنكر ما تبقى من المدينة الإمبراطورة التي ظل يرثيها العجوز (كيبيدو) قائلاً: «أبحث في روما عن روما آه أيها الزائر الغريب! فمن روما إلى روما.. لا مصادفات». محتمل ذلك.. أو هو مؤكد.. ومع ذلك يجب أن أقول: شكراً لألبرتي الذي تحولت بفضله روما إلى أسطورة.. وشكراً لتلك السيدة الاستثنائية ماريا تيريسا ليون رفيقة ألبرتي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©