السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ضياء العزاوي المتغير الثابت

ضياء العزاوي المتغير الثابت
8 أكتوبر 2015 01:16
ظلت مناخات عوالم الشعر الروحية، حاضرة بقوة في رسوم ضياء لسنوات عدة، كمرجعيات ومصادر استلهامية لمعادلات تشكيلية تصويرية ذات وظيفة جمالية تتناغم وأبعاد التصويرية والإيحائية والموسيقية في الشعر (كرسم قوامه الكلمات المشحونة بالإحساس والعاطفة) على حد وصف سيسيل داي لويس Cecil Day Lewis، كما تجلت في الرسوم الهجينة بين التشخيصية والتجريدية، لأشعار المتنبي، محمود درويش، مظفر النواب، محمد بنيس وآخرين. إلا أن إنتاج أعمال نحتية، يتزاوج فيها اللون بالكتلة بتوظيفات مكيفة لصالح العلاقات التشكيلية في العمل النحتي تستلهم من عوالم الشعراء الروحية الفلسفية جمالياتها وتعبيريتها، ظل ممارسة فنية مؤجلة إلى حين، ما لبث أن شرع بها لاحقاً، عبر عمليه النحتيين «إجلال لخليل حاوي» و»نصب لشاعر مجهول» بخامة الخشب المطلي بالألوان، اللذين قدمهما في معرضه الأخير في غاليري ميم. تحولات واختيارات منذ أن بدأت أعمال ضياء تعكس متغايرات وتحولات فنية كبيرة، في أساليبها وتقنياتها، والتي أصبحت فيها ألوان الأكريلك خياراً مفضلاً على حساب الزيتية، أمكن رصد تلك التحولات في إطار تزامنيتها مع انتقاله للإقامة في لندن في نهاية سبعينات القرن الماضي، كانطلاقة جديدة سيتبعها الكثير، حيث أمست التكوينات التجريدية المألوفة في لوحاته أكثر حيوية في حركيتها الانفعالية عبر خطوط انسيابية وأشكال هندسية مرنة غزتها مساحات لونية وافرة وغنية بصفائها وزهوها أقرب لموسيقية لونية، لا تعزى فقط لتطور الخبرات الفنية والممارسة الفنية المتواصلة، بل لاتساع وتنوع تجاربه في بيئة منفتحة ثقافياً وفنياً. وقد عبّر ضياء عن أبعادها مراراً بندمه عن تأخره في مغادرة العراق بعد أن استقر في لندن. إلا أن استبدال الجغرافيا العراقية بالجغرافيا الأوروبية، كواقع بيئي جديد للعيش والعمل، وما تمخض عنها من نتائج مختلفة ومتقاطعة في معطياتها في أحد أوجهها الغياب الفعلي لمؤثرات الحياة العراقية، بما تنطوي عليه من أفكار وثقافة ومناخات فنية وأدبية، وبيئة وحياة اجتماعية ومناخات عاطفية فاعلة في المزاج الذوقي والفني. بالإضافة إلى الوقع النفسي والعاطفي المترتب عن التشويه والتدمير لمعطيات الجغرافيا العراقية الثرية، بسبب الفواجع التي داهمت العراق منذ ثلاث عقود ونصف وما زالت من جهة، وتحرر معطيات الطاقة الخيالية من كوابحها القيِمَية في سطح اللوحة والانفتاح على الثقافات والأفكار والنتاجات الفنية العالمية من جهة أخرى، كان لابد أن تسفر عن معطيات ومؤثرات تأخذ سبيلها للمنجز الفني، أهمها ارتجاعية طبوغرافيا من ذاكرة ما تحت الشعور وما تمخض عنها من أعمال مهمة، لعل أبرزها مجموعة «أرض السواد» و»جلجامش»، وبلوغ مستوى مهني عالٍ ومتقدم، ينحو لتشابهات صدفية في طبيعة (المخيلة التشكيلية) والطبيعة الحركية للشكل التجريدي مع الرسامين الفرنسي (Albert Gleizes 1881- 1953)، والأميركي (Stuart Devis1892 – 1962-)، في سياق مطاولة فنية وتمحيصية للتجارب التشكيلية التجريدية العالمية، التي استوفت طاقات تمثلها الجمالي للامرئي من طرق الزخرفة الإسلامية وأسلوبيتها الهندسية واستعارة المفاهيم والأفكار الصوفية. أما على صعيد النحت، فسنجد أن نصبيه الخشبيين المطليين بالألوان البتروكيمياوية «إجلال لخليل حاوي» و»نصب لشاعر مجهول»، يعكسان مقدار اختمار أثر الفنون النحتية الرافيدينية القديمة في مخيلته ولاشعوره، لاسيما المسلات العراقية السومرية، كأحد أهم الانزياحات المهمة في بنى النحت الرافديني، على الرغم من أنه سيتعذر تصنيف هذين النصبين أجناسياً كمنحوتات، وقد ننسبها مجازاً للنحت، حيث يقتصر استلهامها من (المسلات) وظيفية الشكل الكتلوي الأسطواني والمربع العمودي لبث البلاغات الفكرية وتجسيد المآثر، وتختلف عنها باستقلاليتها في أسلوب التعبير، وخاصية التلقي الجمالي باستبدال تضاريس التكوينات النحتية الريليفية التي تْوشّي المسلة، باستخدام شاعري للمساحات اللونية المتجاورة بتناغم وتضاد إيقاعي لإقصاء الطابع السكوني، وخلق مقومات للحركة تقتضيها ضرورة التعويض عن العفاف الحركي للبناء الخشبي، يستمد بها اللون سيادته التعبيرية كسردية جمالية ورمزية، دلالاتها منسجمة مع ما يمكن أن ندعوه هندسة الشاعر الروحية، وتناغم العلاقات بين ما هو فكرة تشكيلية وبعد فلسفي. وحتى تجارب ضياء في هذه الممارسة الفنية بدءاً منذ أكثر من عقد من الزمن، لم تكن (مجهزة فنياً) لتجنيسها كمنحوتات، كما في مجسم (coloured obelisk) على سبيل المثال، والمنفذ بخامة الراتينج البوليسترية المطلي بألوان الكريلك في عام 2007، أو في أعمال أخرى أكثر قرباً للنحت كما في ثلاثية (Toy Like) بخامة الراتينج البوليسترية والمنفذة في عام 2014 التي تفصح العلاقات التشكيلية فيها عن تكافلية بين اللون والكتلة، تصبح فيها الكتل الهندسية الدائرية والأسطوانية والمربعة والمستطيلة بديل ممكن عن سطح اللوحة لانثيال مساحات الألوان ودفقها الإيقاعي، وبالوقت ذاته تنسجم فيه توظيفات الألوان مع أسس وشروط تصميم الشكل النحتي ومقتضيات علاقته بالفضاء المحيط لصالح دلالات بنية التكوين والشكل النحتي الرمزية ومقوماته الجمالية، في إطار أفكار ومضامين فلسفية متحررة، قد تكون جذوتها خفايا ما تحت شعور شخص الفنان بعكس ما تقتضيه استلهامات عالم الشاعر الروحي والفلسفي، الذي يفترض خيالا تشكيليا منتجا لأسلوبية يتكافأ فيها مستوى التنفيذ وأسلوب الفكرة الفنية لصالح الرمز، الإيحاء والدلالة الاستعارية، التي تتأطر بها الأبعاد الإنسانية والفلسفية لشخصية الشاعر، وهو أمر يشكل تحدياً فنياً لأي نحات متمكن لتحقيق تلك المضامين بالاعتماد فقط على مقومات الكتلة وعلاقتها بالفضاء، وتمثل الحركة عبر بنية التكوين، لاسيما في عمل نحتي مقتصد في عناصره الحركية وباذخ في شكله الهندسي وتكويناته التجريدية. رمزية العلامات في إطار أبعاد الفكرة السيموطيقية، تؤول الكتل الحمراء الناتئة في أعلى نصبي(Homage to khalil Hawie) و(Obelisk for Unknown poet)، بحد أدنى إلى رمزية تمثيلية منصرفة إشاريتها وإيمائيتها إلى هوية شعر خليل حاوي المترعة بالتوظيفات الرمزية والأسطورية غالباً، وبالتالي فإنها - على وجه ما - تنحو في مدلولها للإشارة الى شخصيته، لكنها في «نصب لشاعر مجهول» ومن خلال التحوير في الشكل واختلافات أسلوب التوظيف في التكوين، مع ثبات درجة اللون الأحمر نفسه، تؤول إلى بعد دلالي آخر. في نصب (خليل حاوي) تبدو عبر إحدى الزوايا، ككتلة نافرة عن البناء الهندسي العمودي، لكنها ومن زاوية مشاهدة أخرى وعبر النقطة التي تلتقي فيها بكتلة لونية خضراء أسفل النصب، تخلق واقعاً تشكيلياً جمالياً مختلفاً في موحياته الدلالية، وعبر زاوية مشاهدة أخرى مباشرة تمسي فيه الكتلة الحمراء، عمودياً كجسد معلق إلى صليب مثبت فوق صليب آخر بلون أصفر داكن، يضيف لها انتصاب المنحوتة عمودياً حضوراً بصرياً لافتاً، كرمزية مستلهمة من أبعاد التناص الديني في شعر خليل حاوي، ولربما لإضفاء موحيات دلالية إنسانية مشفرة. المؤكد أن ضياء العزاوي لم يعن بخلق نصب نحتي تجريدي يخلد فيه خليل حاوي، إنما وبإصرار لخلق (مسَلة خشبية ملونة) غير مسبوقة الشكل، ذات مضمون إنساني كوني، تستلهم استلاباته وعذاباته التي توجتها أجوبة أسئلته الوجودية، فاجعة أخرجته من الحياة، بعد أن عاش غريباً محبطا وسط محيط منظومة سوسيو ـ ثقافية عربية خَربَة كانت وما زالت، تستدعي مغزى كلماته: «فلامت غير شهيد مفصحا عن غصة الإفصاح». فهل ينبغي أن نسأل: ماذا تعني دلالة الأطواق نصف الدائرية في النصبين؟ ولماذا ثلثي الكتل العموديتان في النصبين سامقتين، شامختين على هذا النحو؟ ولماذا متوجتان بأشكال رمزية لا يغيب عنها المثلث؟ ولماذا الألوان السيادية المستخدمة في النصبين أساسية وليست مشتقة والشكلين والألوان بأنساق وأبعاد هندسية؟ إذا كان ذلك كضرورة تشكيلية لتمثل هندسة روح الشاعر وما يستبطنها من جمالية وعمق إنساني، فهل يجب أن نرى النصبين بكليتهما كي نفهم دلالة عناصرها التشكلية أم العكس؟ ولو تساءلنا: ما الذي أغرى ضياء العزاوي على هذه المغامرة التشكيلية الموغلة في الروح الشعري.. لربما كان أفضل ما سنجيب به، قول عالم الفيزياء الفيلسوف جوليس بوانكاريه Jules .H.P pincare:«إن الشعراء ينتصرون علينا، فالمصادفة لديهم تأتي بقافية، تعمل على إخراج نظرية من الظلام». لم تكن ممارسة النحت عند ضياء العزاوي بدءاً من الستينات وحتى نهاية السبعينات من القرن الماضي خياراً مفضلاً كممارسة فنية على حساب الرسم، إلا أن الأثر النحتي والملمح الكتلوي لإنشاء المساحات اللونية والتكوينات والأشكال في لوحاته، في الفترة ذاتها ظل ملحوظاً فيها بمستويات وطرق متباينة، بوحي تأثيرات ما ألفته ذاكرته البصرية من النحت العراقي الرافديني أبان عمله كآثاري أكاديمي. حاوي.. فلسفة الموت ولد الشاعر اللبناني خليل حاوي (1919 - 1982) في بلدة الشوير، ودرس في المدارس المحلية حتى سن الثانية عشرة حين مرض والده، فاضطر إلى احتراف مهنة البناء ورصف الطرق. وخلال فترة عمله عاملاً للبناء والرصف، كان كثير القراءة والكتابة، ونَظَم الشعر الموزون والحرّ، بالفصحى والعامية. علَّم حاوي نفسه اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، حتى تمكن من دخول المدرسة، ثم الجامعة الأميركية التي تخرج فيها بتفوق، مكَّنه من الحصول على منحة للالتحاق بجامعة كامبردج البريطانية، فنال منها شهادة الدكتوراه. وعاد إلى لبنان ليعمل أستاذًا في الجامعة التي تخرج فيها، واستمر في هذا العمل حتى وفاته. استضاء درب حاوي الشعري بثقافته الفلسفية والأدبية والنقدية، وجعل النفس والكون والطبيعة والحياة موضوعَ شعره. وكان الصراع بين المادة والروح واضحًا فيه: صراع من أجل التحرر من المادة ومن الكثافة، وحنين إلى الشفافية النافذة التي طالما حلم بها شعراء سبقوه أمثال (ماللّري) و(فاليري) و(رامبو). عام 1982، عشية الاجتياح الإسرائيلي للبنان وضع حاوي حدا لحياته، بإطلاق النار على نفسه من بندقية صيد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©