الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فلسفة الانتماء إلى.. اللامكان

فلسفة الانتماء إلى.. اللامكان
8 أكتوبر 2015 01:16
بكل تقدير واحترام للأستاذ خزعل الماجدي حول موضوعه «الغجر تجوال الكستناء والخيول» والذي نشر في يوم الخميس الموافق 17 سبتمبر 2015 في الملحق الثقافي للاتحاد الظبياني، فقد عمل جهدا من حيث محاولة استعراض تاريخ الغجر كمجموعة إثنية أثارت اهتمام علماء الانثروبولوجيا والاثنولوجيا والسوسيولوجيا كجماعات عرقية مغلقة، غير أن حضورها اليومي والاجتماعي في ثقافة تلك البلدان كانت دوما محط اهتمام الدارسين، فقد ولدت جماعات «علم الغجريات» كعلم بات يتركز في دراسة تلك الإثية المغلقة الغريبة. ومع تطور العلوم الانسانية حتى اليوم تتكشف باستمرار أسرار تلك الطائفة المغلقة في جزء من سلوكياتها، ولكن مع الوقت بات ما هو مجهول تحت تناول الدارسين، بل وساعدت علوم جديدة في علم الجينات واللغات على تفكيك مغاليق ما تبقى من تساؤلات الباحثين عن منابت الغجر الاجتماعية، الذين انتشروا في بلدان العالم، خاصة الشرق الأوسط وأوروبا، فقد طرحت عدة أسئلة حول هويتهم الحقيقية وماهي أصولهم وكيف تطورت وتلاقحت تلك الجماعات مع البيئات المجتمعية التي عاشت بينها. نتيجة لضيق المساحة سأبدأ بملاحظات مهمة. فقد كنت دوما وخلال أكثر من عقدين متواصلين مهتما بالغجر وأجمع مادة بحثية عنهم بهدوء. لهذا سأتوقف عند بعض النقاط التي هي مثار الخلاف، ليس بيني وبين الأخ خزعل، وإنما أيضا خلاف بين المهتمين بموضوع الغجر. فقد ظل الجدل متواصلا وبعض التشخيصات افتراضية أحيانا عن كونها وقائع دامغة، بينما تم التأكيد على قضايا كثيرة خلافية منذ انطلاقتهم الأولى من مركزهم الأصلي شمال الهند، مثل كوجرات وراجستان منذ القرن السادس الميلادي. لن أتوقف عند السرديات الأدبية للأخ خزعل وإنما عند الحقائق التاريخية الخلافية لدى الباحثين في (الغجريات) أو المتفق عليها لكي يكون قارئنا العزيز على بينة تامة. الأصول والفروع كتب الأخ خزعل: «وهناك اعتقاد سائد قوي هو ان الغجر في جميع أنحاء العالم ينحدرون من أصل واحد، هذا الأصل يطلقون عليه الروم» ثم يتطرق إلى عبارة بقوله: «أما الذين فروا خارج الهند باتجاه إيران ثم الشرق الأدنى ومنه إلى أوروبا فهم (الغجر) وهذا ما يفسر بشرتهم السوداء، وكأنما يوحي لنا أن الغجر والروم مجموعتان اثنيتان مختلفتان، فيما الغجر ليسوا إلا إحدى التسميات اللغوية المتعددة التي لصقت بتلك الجماعات. فكلمة غجر مشتقة من اللغة التركية (غوجر)، أما البشرة السوداء فهي سحنتهم الأصلية من عرقهم الهندي بتنوعاته الإثنية بين شمال الهند وجنوبها، بين السنهيليين والدرافيديين. ثم يضيف بعبارة أكثر إرباكا بارجاعنا دون ترتيب منطقي للكرونولوجيا التاريخية لرحلاتهم وهجرتهم بشكل مترابط بانتقاله قائلا: «سابقا اعتقد بعض المؤرخين أن الغجر وفدوا من بلاد الرافدين» الخ.. (النص)، لكن البحوث الحديثة رجحت أن الوطن الأصلي للغجر هو الهند. وعبارة الحديثة توحي أن تلك الاستنتاجات ليست إلا من عقود قليلة مضت في التاريخ الحديث، بينما الوثائق وكتب الرحالة والجغرافيين والمؤرخين ثم الباحثين كانوا قد أكدوا على حقيقة أصلهم بقرون مضت، ولكن الإضافات المتواصلة لاكتشافات الغموض حول تلك الجماعة تقدمها لنا العلوم الإنسانية الحديثة التي باتت منهجاً علمياً في الأكاديميات كعلم الانثروبولوجيا وغيره، غير ان الدراسات التاريخية كحقل مختلف إلى جانب حقول معرفية أخرى ساهمت في إجلاء طلسم الغجر بصورة كاشفة. تظل الحلقة المتفق عليها منبعهم وأصلهم الهندي، ولكن الاختلاف في عبارة الفرار التي لم تكن سليمة مؤكدا مرة أخرى بقوله: «كان أول اتجاه فروا به الى بلاد فارس وتركستان وفي بلاد فارس نشأت منهم قبيلة غجرية كبيرة هي اللور او اللرّ ولاتزال حتى يومنا هذا في ايران مقاطعة واسعة تسمى (لورستان والصحيح لارستان Larstan) يقطن فيها بعض القبائل الرحل من نمط الغجر. فيما اللوري هي تسميتهم الحقيقية كعشيرة هندية قبل أن يصلوا إيران أصلا. يدخلنا في الالتباس التاريخي وهي ليست جريرة خزعل فناقل الكفر ليس بكافر، وإنما مجتهد نقل وأعاد إنتاج الموضوع وفق المصادر التي اعتمدها دون أن يدرك أن أولئك الأشخاص والدارسين عرضة للوقوع في إشكاليات كثيرة، اذ من المفارقات الخلط بين خصائص الغجر وطبائع البدو الرحل، فلا يوجد بينهم سمة مشتركة إلا التنقل، وإن كان تنقل البدو الرحل بقطعانهم بحثا عن الماء والكلأ فيما تنقل الغجر هو جزء من بحثهم لأمكنة الأنشطة الاقتصادية ثم الاختفاء والتنقل بين أطراف المدن والبراري «بحثا عن امكنة جديدة». وسنتوقف حول علاقة الغجري وفلسفته «بالمكان والحرية والملكية الخاصة» فعلى خلاف البدوي تماما لا يهتم الغجري بثروته ولا يسعى لتنميتها وليست هي مصدر رزقه ونمط حياته، لهذا وقع في تلك الإشكالية التاريخية العديد من الدارسين، بل وصهروا الغجر على أساس الاختلاط المؤقت مع أقليات أخرى منبوذة في كل مجتمع وكانت ملاذا مؤقتا لهم حتى لحظة رحيلهم لأرض الله الواسعة. كما أن الغجر تاريخيا لم يسموا أنفسهم بتلك التسميات المتنوعة وإنما وصفهم الآخرون عند مشاهداتهم لهم، فيما راح الغجر يوظفون تلك التسميات الجديدة في مناطق أخرى يدخلونها لتغطية حقيقتهم الإثنية خوفا من الاضطهاد المجتمعي لكونهم منبوذين من تلك البيئات. الفراغ الزمني ثم يشرح مرة أخرى عن فترة مختلة بالفراغ الزمني من حيث التعاقب (الكرنولوجي) بقوله: في نحو القرن الرابع الميلادي، وفي آسيا الصغرى وصل الغجر الى أرمينيا وأقاموا حول ارارات ومن أرمينيا هاجروا نحو الأناضول. وفي نهاية القرن التاسع الميلادي (يتم بلع أربعة قرون دفعة واحدة بالقفز عليها!!) وجد الغجر عند أطراف الامبراطورية البيزنطية ثم اتجهوا نحو بحر ايجة. ويواصل مجتزأ قرونا أخرى دون ذكرها مما يربك عقولنا في عرضه: «وفي أواسط القرن الخامس عشر وصلوا إلى مناطق المجر وصربيا وباقي بلاد البلقان الأخرى» (هكذا اختفت 6 قرون دفعة واحدة من الشاشة التاريخية في عرض الأخ خزعل) ثم يقفز في قوله عند تخوم أوروبا انقسموا إلى مجاميع مختلفة (غير أنه لم يقل لنا لماذا اختلفوا وهل من خصال لتلك الجماعات الخ؟!) بعضها توجهت نحو مناطق وبلدان أوربية أخرى وتفاصيل لا نراها مهمة الخ.. ثم وخلال القرن الخامس عشر غطوا أراضي ألمانيا وانجلترا واسبانيا وهناك مجموعة أخرى اتجهت نحو روسيا، أما لماذا تغيير الاتجاه والأمكنة فلا يتم التعرض لها. وعندما يتوقف حول غجر أوروبا والذين قسّمهم الى نوعين، الأول غجر الرومن وهم غجر اوربا والغجر اللارومانيين في صربيا ومقدونيا وكرواتيا وقد هاجر الكثير منهم إلى دول أوروبا الغربية وينقسمون إلى مجموعات بلغت ست الى سبع ويتحدثون الرومانية وبعضهم يدين بالمسيحية، وبعضهم الإسلام وبعضهم بلا دين (سنشرح لماذا الغجر تلونوا بأديان عديدة إذا سمحت المساحة) نجد الالتباس الإحصائي والتصنيفي واضحا، معتمدا على المصادر التي استقى منها وأغلبها وقعت في خطيئة الكتابات الوصفية، فغالبيتهم في تلك الفترات لم يعش بين المجموعات الغجرية لتفحصها من (داخلها) وليس مجرد رصد (خارجي) للجماعات أغلبه يعتمد على حكايات وقصص السكان الذين لا علم لهم بتفاصيل ذلك المجتمع المغلق، بينما علم الانثروبولوجيا والاثنولوجيا يتطلب منك لانجاز مشروع حقل دراستك العيش بين أي جماعة تدرسها على أقل تقدير عام واحد، لتشهد وتدون كل حقائق تلك الجماعات المغلقة والمتنقلة. ثم الجزء الثاني حسب قوله هم غجر (الدومر) وهم غجر الشرق الاوسط «وينقسمون إلى المجموعات التالية» وذكر التسميات اللغوية لها دون أن يبرهن على أن تلك الجماعات مختلفة عرقيا وعشائريا داخل بنية الجماعات الغجرية وفق أصولها الأساسية من الهند، والتي في الأساس تقاسمت المهن الأربع الأساسية التي عرفها الغجر وعرفهم الناس بها وسنتوقف أيضا عندها. ويعرج خزعل على تسميات متنوعة للغجر مثل: اللولي والزط والنور والحلب والكاوليه والقرج والمهتار واليرك، وغيرها وكلها ليست الا اختراع من مجتمعات خارج الغجر، فوجد الغجر علتهم وضالتهم في انتحال تلك الأسماء في مناطق أخرى، فهم حين ينتقلون من مكان الى آخر يطرح عليهم سؤال من انتم؟ فيخفون حقيقة أصلهم ويتشبثون بالتسميات التي منحها لهم المجتمع.. فيما هم لهم خصوصية سرية ومراتبية داخلية ضمن الهيكل الاجتماعي ونظامه الأشبه بالنظام الأمومي القديم. ويبدو ان خزعل لم يجهد نفسه لمعرفة عدد الغجر الحقيقي وفق الإحصائيات الأخيرة فكتب يقول: «يبلغ الغجر في جميع أنحاء العالم نحو 10 ملايين، ثلاثة أرباعهم من الرومن (اي في الغرب) والباقي من الدومر أي (في الشرق الأوسط)، بينما يشكل غجر اوربا 12 مليون إنسان حسب الإحصائيات الرسمية منذ سنوات قليلة، بالإضافة إلى أكثر من 14 مليون موزعين بين الشرق الأوسط وآسيا وأميركا وكندا وأميركا اللاتينية. ما يعني أنهم تعدوا خط 24 مليون غجري نحو العالم وفق الإحصائيات الرسمية، فيما يرى البعض أن غير المسجلين أيضا يشكلون رقماً مجهولاً. ويدخلنا خزعل في تبسيط كلمة جبسي gypsy الأجنبية التي تعني الغجر فهي مشتقة من كلمة إيجبت أي مصر، وقد أطلقت عليهم لظنهم أنهم يشبهون المصريين السمر اللون. فيما كلمة جيبسي لا تنطق إلا باللغة الانجليزية وكانت مصر تسمى بآسيا الصغرى والأناضول بآسيا الكبرى، واعتقد الإنجليز أن من جاء إلى جزيرتهم عرق قادم من آسيا الصغرى وهي مصر.. وليس بسبب لون البشرة. ويتطرق خزعل إلى الأساطير الغجرية وهي نوعان، نراها أساطير هم حاكوها عن أنفسهم وثقافتهم وإرثهم، وأساطير سردها وأغدق في تفاصيلها الآخر/ المجتمع، ولن يهمنا منها إلا «الإله أوديل» وهو كل شيء (السماء والنار والريح والمطر)، ويؤكد خزعل أن تلك الميثولوجيا تذكرنا بالميثولوجيا الإيرانية القديمة. تسلسل تاريخي ولنبدأ بالتسلسل التاريخي وفق الوثائق التاريخية عبر وصفها لتنقلهم وكانت للأديرة والقساوسة والإخباريين والتراثيين دور مهم في وصف تلك الجماعات، سواء بالمبالغة أو التضخيم أو عدم الدقة ولكنها في المجمل تحدد أهم السمات عن وجودهم. لم يخرج الغجر من شبه القارة الهندية إلا مع سنة 641 بعد الميلاد (القرن السادس الميلادي) حسب الفردوسي الشاعر الفارسي في كتابه الشاهنامة، ونحن لن ندبج النص الطويل لضيق المساحة، بل ويؤكد تلك المعلومة جان بول كليبير في كتابه «الغجر/ دراسة تاريخية اجتماعية فولكولورية» بأن الامير بهرام كور أراد «لشعبه المسكين الذي أنهكه الشوق الى المسرات والبهجة وبحث عن الوسائل التي يستطيع معها رفع معنوياته وأن يجلب له التسلية في حياته القاسية فارسل بعثة دبلوماسية الى شنكل (صهره) ملك كمبودية ومهراجا الهند، طالبا منه أن يختار من بين شعبه أشخاصا ذوي قابلية لتخفيف آلام الحياة ونشر المرح والمسرة بين الشعب الغارق في العمل القاسي والبؤس وأن يرسلهم إلى بلاد فارس، فحصل بهرام كور على إثني عشر ألف مغن متجول رجالا ونساء (وهناك رأي بعشرة آلاف)، وخصص لهم الأرض ومنحهم البذور والماشية ليحصلوا بواسطتها على وسيلة العيش، وأن يسكنوا في المناطق التي حددها لهم فيستطيعوا بذلك الترفيه عن شعبه مجاناً، وبنهاية السنة الأولى ترك هؤلاء القوم الزراعة واستهلكوا البذور وأصبحوا بدون مصدر للعيش، فغضب بهرام كور منهم وأمر بالاستيلاء على حميرهم وآلاتهم الموسيقية، وإن عليهم التجوال في البلاد للحصول على معيشتهم بالغناء، فبدأ هؤلاء الناس وهم اللوري بالتجوال حول العالم باحثين عمن يستخدمهم آخذين معهم كلابهم وثعالبهم وكانوا يسرقون آناء الليل وأطراف النهار في تجوالهم» (ص 35- كليبير). وقد أيد هذه الحادثة المؤرخ العربي حمزة الأصفهاني عام 940 ميلادي. كما أضاف سائح إنجليزي هنري بوتنجر (رحلات في بلوجستان والسند عام 1816) قام بالتجوال في منطقة السند وبلوجستان في القرن الماضي، وقدم وصفا لهذه القبيلة الصغيرة: «اللوري شعب متشرد لا موطن معين له» وبما أن وصفه انطباعي ومتأخر جدا فلن تهمنا ملاحظاته التي لا يوجد تأكيد بأنه شاهدها بنفسه أو نقلها عن حكايات سمعها. فيما يؤكد في تقريره عن إحصاء بلوجستان 1911 وهاتون في 1949 في كتابه «الطوائف في الهند»: «من بين العشائر القاطنة في بلوجستان، من المناسب أن نذكر هنا اللوريين السمكريين المتجولين، صاغة الجواهر في الذهب والفضة، والمغنين الموسيقين المتجولين، ونساءهم العاملات في القبالة، والعمال غير الماهرين، ونجدهم في كثير من الأوصاف والحالات مشابهين لشعب (الدوم) القاطن في شمالي الهند، ولكنهم يدعون أنهم من سلالة عربية انحدرت من مدينة حلب، والحقيقة أنهم غجر يعيشون بصورة خاصة على ساحل (مكران) إلى الغرب من كراتشي، وهم على الغالب بدو رحل ويبدو أن صفة البداوة هذه هي الغالبة في جميع انحاء بلوجستان، ويعيش حوالي ثلث السكان في خيم وأكواخ وقتية ويهاجر الكثيرون الى السند والعودة مرة أخرى» (ص 36 ـ كليبير). وتشبثنا بهذا النص حتى وإن كان طويلا، فلنا غاية منه في التسلسل والتنوع الجغرافي لحركة الغجر الأوائل. بما أن إيران واسعة الأرجاء «فان الغجر/ الزط تنقلوا ردحا من الزمن يناهز القرن والنصف، وبما أن اللغة والثقافة الفارسية غطت مساحة واسعة من آسيا الوسطى وتركيا الحالية وافغانستان، فان الأسماء الشائعة الثلاثة المتداولة اللوري واللولي والكاولي هي الأكثر رواجا، غير أن اللوري وحدها المستخدمة من أصولها اللغوية الهندية، وخلالها حدثت فتوحات إسلامية في الهند وإيران، وكانت إيران وافغانستان ومناطق في الهند تخضع لولايات وسلاطين مستقلة ظلت مرتبطة بالدولة العباسية ثم الأموية. وحاربوا وشاركوا الزط في التمرد والعصيانات وتخالطوا مع السيابجة والأساورة وأعراق وعبيد وموالي، وتم مرارا إخمادهم ولكنهم سرعان ما يعودون الى طبيعتهم المتقلبة والمتمردة وغير المستقرة، وخلال أكثر من قرنين ونيف عاشوا وتحركوا بين البصرة حتى حدود أنطاكية تنقلوا وعملوا في البطائح والأقاليم المجاورة الخاضعة للدولة العباسية ثم الأموية، وقد أشار اليهم البلاذري في «فتوح البلدان» والطبري وابن الأثير «الكامل في التاريخ» واليعقوبي وابن خلدون ففي عهد الخليفة أبي بكر كان في الخطّ بالبحرين حامية من السيابجة والزط، وأشير إلى زط البصرة في 14 هجرية وعددهم أربعين إلى أربعمائة شخص في عام 596 وكان على رأسهم ابو سالمة الزطي، ومع قيام الكيان العباسي 749 ميلادية ومناهضتهم له لاحقا، وأشار البلاذري إلى أن في عهد الدولة الأموية نقل معاوية بن ابي سفيان في سنة 669ـ 670 أعدادا هائلة من زط البصرة فأسكنهم سواحل الشام وأنطاكية حيث أصبحوا فيما بعد عيونا للدولة الأموية»، وذكر في كتابه بأنه كانت توجد في زمنه محلة بأنطاكية تعرف بأسمهم كما استمر بقايا من نسلهم في مدينة بوقا من أعمال أنطاكية. وقد عمل الوليد بن عبدالملك بالسياسة نفسها بتوزيعهم في نواحي أنطاكية. وللعلم أن هجرات وانتقال الزط ليس فقط الهجرة الأولى زمن الفردوسي، وإنما تواصلت تلك الجماعات تدفقها حتى القرن الحادي بسبب القحط والجوع بنواحي الهند فانتقلوا إلى بلاد كرمان وفارس وسواحل الخليج وكور الأهواز حتى استقروا أخيرا في البطائح (أرض واسعة بين واسط والبصرة) وعرضت كتب التراث والتاريخ عن ثورة أو تمرد الزط في عهد المهدى في السند عام 165 هجرية وشاركهم العبيد والموالي تمردهم، كما عظم خطر الزط في عهد المأمون 820 ميلادي بتحكمهم بطرق الإمداد ما بين البصرة وبغداد، أما المعتصم بالله في 842- 833 ميلادي فإنه ورث عبء ثقيل لثورة بابك والزط بشقهم عصا الطاعة على السواحل الشمالية من الخليج والدولة البيزنطية وفق ما ذكره الطبري، معتبرا الزط «أكثر تنظيما» وظل المعتصم يقاتلهم تسعة أشهر، ولا نحتاج تفاصيل كيف حاصرهم حتى نفاد ميرتهم. ويعبر الطبري عن المشهد في يوم عاشورائي في زمن المعتصم وكيف شحن الأسرى الزط بعائلاتهم في القوارب ليصبحوا فرجة لأهالي بغداد وذلك في سنة 835 م، وكلمة الزط حسب الفيروزآباي هم جنس من السودان والهند وأصلها كلمة فارسية معربة عن كلمة «جت» أو «جات». (الدارسون فيما بعد سيؤكدون أن تسمية جت مشتقة من اسم قرية أو قبيلة في مناطق الهند (jot). ولا زالت حتى اليوم موجودة القبائل/ العشائر الزطية في الهند). واستعرض ابن الأثير في الكامل من التاريخ كيف أجلى الحجاج بعضهم وقال لهم: «كان في شرطكم ان لا تعينوا بعضنا على بعض» تعبيرا عن تورطهم مع الأعراق والفئات الاجتماعية الدنيا في المجتمع كالعبيد والموالي، وتمردات محلية صغيرة شارك فيها الزط. ومفردة بعضهم تؤكد بقاء جزء من تلك الجماعة في جسم الحاضرة الإسلامية حتى أواخر القرن العاشر الميلادي كما ورد عند الطبري، فقد كان لأبو الفرج محمد بن أاحمد بن زط الزطي عام 990 ميلادية مكانة مرموقة. ومبعث بقاء بعض من تلك الجماعة في الخلافات العربية لتمتعهم بمهن وحرف لا يمارسها إلا الغجر كالتحديد والترصيص وغيرها من مهن دونية لا يمارسها الأعيان ولا البدو. ولمعرفة المزيد عن مهن الزط أنظر دائرة المعارف الإسلامية حول سكان الخطّ (موضع على ساحل البحرين وعمان وهي مواضع كانت تجلب اليها الرماح والسيوف والقناع والترس من الهند). حماية الثغور وبما أن معاوية نهج سياسة التهجير، فقد وجد من الأفضل نقل الزط إلى سواحل الشام لحماية الثغور الشامية من الهجمات البيزنطية المباغتة، وبذلك يتعرف الزط على مخارج مهمة تعرفهم على العبور من البوسفور لاحقا نحو اوربا. وحول تشتت الغجر التاريخي يؤكد بول كليبير بقوله: «ولعل أقدم موجة من الغجرـ إن صح أن الهجرة الكبرى قد حدثت في زمن ما من أزمنة التاريخ- تشتت بعد اجتيازها حدود أول قطر، وتفرقت إلى شعب وفروع صغيرة، وعلى هذا فقد استقر الرأي على أن الغجر بعد أن تركوا ضفاف نهر السند، اتجهوا أولا إلى أفغانستان وإيران ورحلوا شمالا إلى بحر قزوين وقسم وصل جنوبا الى الخليج العربي» والنص طويل في تفصيل حركة الغجر، والتي كليبير نفسه لم يتوقف عندها بعبارته «حدثت في زمن ما من أزمنة التاريخ!». في الحقيقة: إن الجماعات الأولى التي ذكرها الفردوسي هي من تنقلت في أرجاء إيران لأكثر من قرن ونصف فالحدود الأفغانية مجاورة، وبالامكان رؤيتهم أثناء تنقلهم عند الحدود العراقية، وما أغفل عنه كليبير هو تلك الحقبة المهمة الممتدة «زمن التاريخ الضائع» من فترة الفردوسي والشاهنامة إلى فترة الإجلاء الكبير لهم لحدود بيزنطه، والتي ذكرها التراثيون والمؤرخون العرب الأوائل سماعا أو نقلا أو مشاهدة، كالبلاذري والاصطخري وابن الأثير والطبري واليعقوبي وابن خلدون وغيرهم، لهذه الفترة الممتدة ما بين القرن الخامس والتاسع ثم بين التاسع والحادي عشر والخامس عشر تموجت وتداخلت فيها تنقلات الغجر، بل وتسميتهم بأسماء تلك المناطق الشاسعة التي تحركوا فيها من شمال أفغانستان مرورا بكل ايران عبر البصرة وبغداد وسوريا وانطاكيا جنوب تركيا وتخوم سوريا حالياً. في البداية قبل قرنين وما تلاها ظلت الدراسات الأوروبية تؤكد أن الغجر دخلوا لأوروبا في القرن الحادي عشر الميلادي، اعتماداً على الوثائق ووصف الرحالة والمؤرخين، غير أن الحصول على وثيقة في دير آثوس المهم في شمال اليونان في القرن التاسع الميلادي نسف الفرضية السابقة عن حقيقة ان الغجر عاشوا ومروا من تلك المنطقة، ومن هذه المنطقة تركيا الحالية واليونان وايران تمت دراسة المفردات التي دخلت لغتهم الأساسية فوجودا أنها «تتضمن الكثير من الكلمات اليونانية والتركية والأرمنية (كليبير ص 50)، ويؤكد كليبير أن الغجر «قضوا في الشرق الأدنى وإيران، وخاصة في تركيا واليونان حقبة من الزمن تمتد بين القرن العاشر والخامس عشر» (ص 50). وبذلك عاشوا خمسة قرون في تلك البقعة الجغرافية الآسيو ـ أوربية وقبلها ما يزيد على ثلاثة قرون ونيف بين إيران والعراق من هجرتهم الأولى، وتشعبت حركتهم في كل الاتجاهات وتوزعوا جماعات منغلقة بهدف حماية أنفسهم من الاضطهاد. بعدها ستعرف أوروبا موجة تحركهم المدونة والمسجلة بشكل مرتبك «وبيانات مشتتة واهية» وفق تعبير كليبير. ويدون كليبير بالتسلسل التاريخي ظهور الغجر في اوربا أولها في بيزنطة 850 ميلادية (والتي ذكرها العرب في كتبهم في تواريخ متقاربة كما أسلفنا) وآخرها السويد 1515 باعتبارها أقصى نقطة في الشمال الأوربي وصلها الغجر. ويقدم الجدول تلك التواريخ للوجود الرسمي للغجر. ولكن كليبير يحذر من أن هذا لايعني في الواقع أن الغجر لم يصلوا اوربا قبل ان تشعر بهم السلطات الرسمية، مستشهدا بأن الغجر وجدوا رسميا في جنوب فرنسا منذ عام 1419م فيما استعرض حقيقة مدونة عن أن الغجر «وجدوا في جنوبي فرنسا من مدة طويلة واعتادوا حضور المهرجانات التي تقام في بوكير منذ عام 1355م « (ص 52)، وبهذا كان للغجر موطئ قدم في الجنوب الفرنسي نصف قرن ما بين التسجيل الرسمي والحضور الفعلي الواقعي، وهذه الفرضية تنطبق على كل الدراسات والتوصيفات والوثائق المدونة اعتمادا على الروايات والمشاهدات بما فيها أسماء ومهن الغجر، وخلطهم بإثنيات دونية نتيجة الاختلاط أو تشبيه بعض جماعات البدو الرحل بجماعات غجرية نتيجة تجاورهم والعيش بينهم لأسباب عديدة. أخيرا نوجز أن هناك ثلاث جماعات رئيسية أثبتت دمها الغجري وهي: غجر الكالديراش، وغجر الخيتانو، وغجر المانوش، حسب كتاب كليبير، ولهذا فإن لوري Luri ليست هي لاري Lari المنطقة في ايران، وإنما اللوري عشيرة هندية ذكرها الفردوسي. أما تسميتهم بالدوم (Dom) المختصرة من الدومبا والمرتبطة بالطبلة ورنتها وبالدمارا Damara ومعناها بالسنسكريتية «الطبل» والروم Rom في اللغة الرومانية معناها الرجل «الرجل الطيب/ الإنسان/ شخص متزوج/ زوج» فيما روماني تعني الزوجة فانتقلت الى اوربا الكلمتين الدوم والروم، والدوم جماعات هندية في أسفل الطوائف الهندية والتي تعمل في الغناء والموسيقى، والتي أرجعها الدكتور رايكوجوريتش الغجري بأنها فرضية بأن الروم كلمة مشتقة من راما بطل ملحمة راميانا. نختتم موضوعنا بكلام ماكار تشودرا الغجري العجوز (ماكار تشورا لمكسيم غوركي واخرجت فيلما بعنوان «الغجر يصعدون الى السما»): «أنت لا تستطيع بل أنت لاتعرف بلادا كالبلاد حيث ذهبت، بلى هكذا يجب ان يعيش الانسان، متنقلا من مكان إلى آخر، إمش ولا تبق طويلا في مكان واحد، فما جدوى ذلك؟ أنظر الى النهار والليل يركضان، يطارد كل منهما الآخر فيما حول الأرض فافعل مثلهما، ولا تتوقف كي تفكر في الحياة، كيلا تهرب المحبة من قلبك». وفي مكان آخر يتحدث الغجري العجوز بحكمة من خبر الحياة: «إذن أنت تجوب الآفاق؟ ما أروع ذلك! لقد اخترت الحصة الفضلى يا صاح، هذه هي الطريقة المثلى في الحياة تضرب في الآفاق وانظر الى الأشياء. وعندما تشبع من الرؤية اضطجع ومت. وهذا كل شيء!». يحذرنا ماكار من النساء مثلما هو يطرح أسئلته: «هل يعرف ما هو طعم الحرية؟ هل تستطيع أن تتعلم كيف تجعل الناس سعداء؟» ودون شك لن يرتحن النساء من قول ماكار عنهن «لا تؤمن بالنساء، بل أبق دائما حرا طليقا. الفتاة تسر وتفرح عندما تغمر بالقبلات أكثر مما أسر أنا وأنشرح عندما أدخن غليوني. لكن إذا ما قبّلتها مرة ماتت إرادتك في قلبك. إنها ستربطك اليها بوثاق خفي لن تستطيع له فصما، فتضع روحك عندئذ عند قدميها. تلك حقيقة لا مراء فيها! فاحذر من الفتيات! هن يكذبن دائما. تقول إني أحبك أكثر من كل شيء في الحياة، لكن جرب أن تخزها بالدبوس ولسوف تمزق لك قلبك إذن». دون شك لا يسعنا الخوض في كل تفاصيل الغجر، فمجالهم رحب وجميل وغريب ومتنوع ومثير للبحث دون توقف. الغرباء النعوت والأوصاف فهي ليست إلا أسماء يطلقها المجتمع الذي يستضيف بينه تلك المجموعات الغريبة. فالأخ خزعل ينبغي ان يعرف ان الكربات/ القرباط/ الغرباط الذين يعيشون في اوروبا، والغربتي الذي يعيش في الشرق الاوسط، والغرباط في افغانستان، هم نفسهم الغجر بتنغيم ولفظ مختلف قليلا، فالمعنى هو وصف الآخر لهم بعبارة (الغرباء/ الكربات)، ولتعدد الألسن تختلف طريقة اللفظ.. ولكن علماء الغجريات في تحديدهم لتماثل العرق الغجري تم التركيز على: أولا دراسة اللغة ومشتقاتها اللفظية واللسانية، وثانيا مقارنة ودراسة الحرف/ المهن، وثالثا وأخيرا وهو المهم توظيف علم الجينات عبر فحص دم تلك المجموعات، والتي برهنت بعد قرون عن أنها فعلا موجودة ونادرة من مثلها في الهند كفصيلة وسلالة إنسانية. وبذلك يقطع اليقين العلمي جميع الفرضيات الخلافية حول الجوهر الحقيقي لتلك الجماعة العرقية عبر علم الجينات (دي ان إيه D.N.A). قرودهم ومهنهم لم تتضمن مقالة خزعل الماجدي بشكل دقيق المهن عند الغجر، ولم يفصل أهمية الحيوان مانحاً الدب الدرجة الثانية بعد الحصان، فيما القرد جاء في المرتبة الثالثة، بينما الحقيقة أن الغجر تعرفوا على الدب في المناطق الباردة واستأنسوه لاحقاً، فيما القرود كانت بأنواعها تزدهر في شبه القارة الهندية.. بل وهناك رأي حول العلاقة بالحصان فقد كانت في مراحل أخرى من تحرك وتنقل الغجر من مكان إلى آخر، ونفس الشيء تناقلهم واستخدامهم للآلات الموسيقية وفق البيئة الاجتماعية الجديدة. أما صياغة الذهب فهي لم تكن قط من مهن الغجر الأساسية كما هي مهنة النحاس والفضة، بقدر ما ظلت مهنة الذهب القديمة حكراً على طوائف كاليهود والأرمن والصابئة. ولم تكن بعض الحرف من صلب مهنهم الأساسية بل مهن عابرة تفرضها الشروط والظروف التي تدفع بالغجر إلى تعلم حرف من أجل الرزق، ولكنها حرف متحركة معهم شرط أن لا تجعلهم مرتبطين بالمكان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©