السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

طه محمد علي.. رهين الحِصاريْن

طه محمد علي.. رهين الحِصاريْن
12 أكتوبر 2011 20:41
لم يكن ذلك الأحد يوماً عادياً بالنسبة لـ”سوق الكزانوفا” في مدينة الناصرة. ثمة خطى لن تدرج على بلاطه العتيق. ثمة شهيق لن تستعيده رئة الشعر وأنفاس لن يتردد صداها في الأجواء. لن تدق العكاز دقاتها الرتيبة ولن يجد الشاي الخفيف شفاهاً تشربه... لكن أهل القلم ورجال الصحافة ونسائها سيجدون مادة جديدة يكتبون عنها، وحدثاً يتناولونه، مستدركين؛ متأخراً جداً؛ الإهمال الذي لحق بالشاعر الفلسطيني طه محمد علي في حياته، والذي كان، بحسب صديقه الشاعر سعود الأسدي، “عنواناً ثقافياً لكل من عرف القلم والكتابة، لكن وقع عليه غبن في مجتمعنا من حيث التكريم”. غبن... أجل، أجل، هذه هي الكلمة التي يجب أن تحضر هنا لكي لا تدخل الكتابة في الرثاء... لكي تدخل في ما يلزم قوله في مناسبة كهذه. رحل الشاعر الفلسطيني البسيط جداً، والمتواضع جداً، بل الكبير جداً في تواضعه وعلاقته بالحياة والناس والشعر، رحل... مغبوناً! لماذا؟ ربما كان ينبغي أن يرد اسمه على لائحة “أهم شعراء القرن العشرين” لكي نفطن الى وجوده بيننا... على كل حال، طه محمد علي ليس بدعة في هذا، فثمة شعراء ومبدعون كثر رحلوا من دون أن يحصلوا على ما يستحقونه من اهتمام وتقدير، ولما ماتوا انتبه الإعلام لهم... كأن الموت وسيلتهم الوحيدة ليقولوا: كنا هنا، بعد أن تعبوا وهم يقولون أثناء حياتهم: نحن هنا... كأن الحياة حجاب عنهم... وكأن الموت باب إليهم... كأننا في ما نظنه “صحّتنا” الإعلامية غافلون عن قيمة “تيجان الإبداع” التي تزين أرواحنا حتى يقع عليها الآخرون... فننتبه!. لعل السبب الأساسي في هكذا غبن أو غياب “إعلامي فقط” هو كونه يقطن القسم الأكثر غياباً من الوطن الفلسطيني... هناك؛ في الأراضي التي احتلت عام 1948 التي سقطت أو أُسقطت بفعل فاعل من خريطة الإبداع العربي وعاشت في عزلتها الكاملة لسنوات طويلة؛ عاش الشاعر محاصراً في وطن محاصر فكان (رهين الحصارين). في فلسطين القصيّة تلك نشر الشاعر منتجه الإبداعي، ولهذا بقي معروفاً على نطاق ضيق في العالم العربي ولعل موته يهب لشعره الحياة ويدفع أولي الشأن إلى إعادة نشر كتبه خارج فلسطين. سمكة الفرح المستحيلة هذه سيرة ذاتية بصوت آخر، لكنه ليس بالصوت البعيد... الفلسطيني طه محمد علي تقمص روح قريته المهدمة وراح يروي عذابه معها. تماماً مثل مبدعين فلسطينيين آخرين، ومثل كل فلسطيني، تتشابه الظروف العامة، يتشابه الجرح، مع بعض الاختلافات في التفاصيل والنكهة... في صفّورية قضاء الناصرة، القرية الفلسطينية التي كانت، ولد الشاعر طه محمد علي عام 1931 لينضم الى قافلة الجموع التي ستسير بعد ذلك على درب آلام لا ينتهي عند حدود مخيم للاجئين في لبنان. ومثل عائلات كثيرة عادت عائلته الى صفورية لكن صفورية كانت قد محيت عن بكرة أبيها وهجر أهلها وصار اسمها الجديد “تسيبوري”. مذّاك صارت الناصرة “وطنه الثاني” وصفّورية “منزله الأول” ومسقط روحه وقلبه وفردوسه المفقود، و”طروادته” و”الحنين الأبدي إلى المجهول”. يومها شعر بالتواء في روحه وربما في أصابعه التي ظلت تكتب عنها بحنين فلسفي لا متناه، أما الفرح فصار بعيداً، بعيداً، أبعد من “سمكة” بكى الشاعر كثيراً وهو يحاول اصطيادها عبثاً، بينما كان الحزن متوفراً ودائماً وعجيباً في شدة إخلاصه، وقد شبهه بعصفور “كان في قفص عندي، أفتحه وأطلقه، فيعود لي”... لكن الحنين ظل مقيماً في دياره، وظل هو مقيماً فيه... صفورية هذه هي جرحه الراعف الذي أعطاه الشعر، وأعطاه أيضاً دقات قلبه وشغفه بالتفاصيل التي انجدلت على يديه في ضفائر إبداعية تتجاور فيها ثقافة الشرق والغرب بكل راحة وأريحية، وينزل في منازلها عنترة العبسي ومجنون ليلى وامرؤ القيس والمتنبي جنباً إلى جنب مع شكسبير وإليوت وغوته، ويلتقي على منابعها مع فلاسفة اليونان ومتصوفي الشرق... تلك هي حديقته الفكرية التي لطالما جلس في أفيائها يشرب شايه الخفيف عند الظهيرة، ماراً ببصره على حقول بعيدة وعصافير مهاجرة سرعان ما تخرق الذاكرة مثل برق شتائي ثم تطير على جناحي صورة شعرية تسكن قصيدته. أفي شعره كل هذا الحزن؟ أجل... أجل ... لكنه حزن متوارٍ، يتقنَّع بإيقاع فرح خارجي... حزن لا ينفتح إلا على نفسه... لماذا يصر العالم على أن يكون حزيناً هكذا؟ ولا مرّة كان الشاعر قادراً على الإجابة وفي المرات القليلة التي لاح له طيفها وجده صعباً، ارتجف قليلاً وربما كثيراً، عندما شعر أن الحزن يتحول الى ما يشبه الديانة الأخرى التي تعرض ذلك الشكل المرير للخلاص. أظافر الشعر الطويلة لم يكن فقدانه “المنزل الأول” هو خسارته الوحيدة، بل مجرد أولى الخسارات التي تعاقبت عليه. خسارته الثانية الناجمة عن احتلال الوطن تمثلت في أن الشاعر ترك مقعده الدراسي شاغراً ولم يتمكن من العودة إليه. بيد أن الشاعر في نزوعه إلى تحقيق ذاته ذهب الى العلم الحقيقي والثقافة غير الرسمية. خصوصاً أن تجربته وتجربة جيله مع المدرسة لم تكن مفرحة، فهو لا يذكر منها سوى تأنيب المدرس له و”الصفعة القوية” التي “زحزحت مخ” أحد التلاميذ لأنه سأل “السؤال الذي لا يُسأل”، وضحك التلاميذ عليه وشماتتهم به. ولأنه يريد أن يسأل دون أن يصفعه أحدهم صفعة “تزحزح مخه” ودون أن يصبح “مضحكة” للآخرين قرر الشاعر أن يكون حراً في التعلم لا يملي عليه أحد شيئاً، وكان له ما أراد. انفتحت أمامه أبواب المعرفة على اتساع لغتين: العربية والإنجليزية التي أتقنها وحفظ نصوص شكسبيرها ومن خلالها قرأ الأدب الإنجليزي والأميركي والروسي والألماني والفرنسي وغيرها... وانفتحت الأسئلة إلى آخرها متجاوزة ثقافة “العيب” إلى ثقافة تساؤلية، حرّة، تخلخل اليقينيات ولا تعرف الركون الى أي نوع من البديهيات أو المسلّمات... ولهذا ظلت أظافر شعره طويلة!. لقد تمكن طه محمد علي، الحكّاء المرهف، من التقاط خيط الإبداع الفني في ما يراه حوله... بعينه الحاذقة وبصيرته العميقة عرف من أين تُؤتى القصيدة، وكيف يعثر على الشعري في اليومي والعادي وكيف يحرره من مألوفية الطرح المأنوس مطلقاً إياه في صيغة جمالية إلى تخوم الإبداع الشعري. بهذا، صار من حقه أن يجلس في الصف الأول من صفوف الشعراء الفلسطينيين وأن “يضع رجلاً على رجل” في قائمة “أهم شعراء القرن العشرين”. ربما لم يكن هذا ما يعنيه... كان شاعراً فقط... شاعراً يبوح للقصيدة بما يضنيه، يطلعها على همهمات روحه وأفراح قلبه القتلى ثم يطلقها لتتبوأ المكانة التي شاءتها لها سماتها الفنية والجمالية. ربما كان يعنيه أكثر، ويفرحه أكثر، أن ينتزع تصفيق الإعجاب من عدوه، تماماً كما حدث ذات مرة في جامعة بير زيت عندما قرأ قصيدته الشهيرة “عبد الهادي يصارع دولة عظمى”، وصفق الملحق الثقافي الأميركي، فقال له الشاعر: انها ضدكم، ضد بحارتكم، فأجاب: أنا اعلم، ولكنني صفقت لجمالها الفني. كانت القصيدة تحمل سخريتها المرّة من سلوك العربي الفلسطيني الذي يحتفي بـ “كرم حاتمي” من دون أن يكلف نفسه عناء السؤال: من هم؟ وللسخرية هذه تجليات متعددة يمكن العثور عليها في نصوصه.. سخرية مرة، تحفر في روح القارئ دروباً لاستنارة الوعي وهي تشبه في بعض نواحي حدتها رسومات الفنان ناجي العلي. رغم الحزن الشفيف في شعره لا تلمح فيه أثراً للبكائيات ولا الندب الشعري، بل يأتي أشبه بنار تضطرم تحت الرماد. فالشاعر لا يقول إلا ما يرضي مزاج القصيدة ومزاج الوطن. للقصيدة الألق والتحليق في بلاغيات نصية واستخدامات رمزية وتوظيفات تراثية وما خلا ذلك من الأساليب الفنية التي تجعل الشعر شعراً يهززك عند سماعه، وللوطن حضوره الشفيف، العابق برائحة الأهل وتحديهم العالي لكل محاولات التذويب والنفي من الحاضر والتاريخ، والسعي الحثيث لإلغاء روايتهم وتكريس رواية أخرى مختلقة لا تسندها أوهام “العابرين” فيما هو، وناسه، كانوا وسيظلون رغم التدمير والتهجير فوق الهزيمة. يقول الناقد أنطوان شلحت، إنّه بعد صدور الترجمات العبرية “اعترف نقاد إسرائيليون بأن قراءة شعره قد تجعل المتلقي الإسرائيلي يدرك أنه يقف أمام شعب فلسطيني مرتبط بأرضه، ولا ينوي نسيان هذه الرابطة”... لم لا، ما دمنا أمام شاعر يكتب عن طفل فلسطيني يؤمن بأنه سيغير وجه الشرق الأوسط، ويؤمن أيضاً بأنه وشعبه “لست زجاجة كوكاكولا تُشرب وتلقى في سلة المهملات”. يكتب فتحي زوراني عن الشاعر المعلم، عن “دار ندوته” التي جمعت شعراء وكتاباً ومثقفين، صاروا فيما بعد سادة المشهد الثقافي الفلسطيني، وعن دكان الذكريات... أليست التذكارات شقيقة الذكريات!؟ ألم يكن يحترق وهو يقدم للسياح الجمال المحفورة من خشب الزيتون أو الأيقونات الفنية والمرايا المسيجة بالغرزة الفلاحية أو تمثال العذراء والمسيح “نبي السلام الذي غاب عن أرضه السلام” من دون أن يجرؤ على أن ينبس بكلمة واحدة عن مأساة وطنه؟ بلى، كانت روحه تحترق مع كل فوج سياحي، لكنه احتراق سيزيفي لا يخمد ولا تأكله النيران... في الثمانين يبدو الموت سهلاً كما تدخل الريشة الرقيقة في المحبرة. تاريخ رسمي توفي مساء الأحد (2 أكتوبر 2011) الشاعر الفلسطيني الكبير طه محمد علي الذي حمل لقب “عاشق صفورية” عن عمر ناهز 80 عاماً، وشُيع جثمانه في مدينة الناصرة (الأراضي المحتلة) في اليوم نفسه. ? ولد في قرية صفورية قضاء الناصرة العام 1931. ? شرد عن وطنه في العام 1948 ونزح إلى لبنان. ? عاد الى مدينة الناصرة بعد أن منعت السلطات الإسرائيلية عائلته من العودة إلى قرية صفورية التي تم تهجير أهلها وبناء “تسيبوري” اليهودية على أنقاضها. ? نشر قصصه وقصائده وكتاباته النقدية في الصحف والمجلات الثقافية مثل: “الفجر” و”الجديد” و”الفكر الجديد” وكلها تصدر في الأراضي المحتلة عام 1948. ? في رصيده خمسة دواوين هي: “القصيدة الرابعة وعشر قصائد أخرى” (1983)؛ و”ضحك على ذقون القتلة” (1989)، و”حريق في مقبرة الدير” (1992)؛ “اله، خليفة وصبي فراشات ملونات” (2002)، “ليس إلا” (2006)، ومجموعة قصصية وهي “سيمفونية الولد الحافي ــ ما يكون وقصص أخرى” (2003)، علماً بأنّ أعماله الكاملة صدرت عن دار “راية” (2011). ترجمت قصائده الى 12 لغة. ? وضع على لائحة أهم شعراء القرن العشرين في موسوعات الشعر الحديث سواء بالمراجع الصادرة بالانجليزية أم بالعربية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©