السبت 4 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإسلام بين عالمية الرسالة وإنسانية التشريع

الإسلام بين عالمية الرسالة وإنسانية التشريع
30 ديسمبر 2010 20:37
لعل من المفارقات العجيبة في الإسلام أنه نزلت تشريعاته بلسان عربي مبين، وظهر في بيئة عربية، ومع ذلك تحققت له العالمية في المكان والزمان والرسالة، حتى أضحى الكون بأسره هو وطن الإسلام، وأصبح الإسلام في الوقت ذاته هو وطن الكون ودين الحياة. وعندما أقول ذلك أوقن بأن حديثي هذا ليس من خطرات الفكر وفلتات الطبع، بل هو حديث له ما يؤكده ويبرهن عليه من نصوص الإسلام ذاته، وما حواه الإسلام من مقررات عقلية للبنية التشريعية في أحكامه. أما نصوص الإسلام فنقرأ فيها عموم الخطاب القرآني الذي يشمل في مقاصده وغاياته سائر خلق وكافة الناس، إذ نجد قول الحق سبحانه «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» الأنبياء 107. وقوله سبحانه «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ» الحج 5 . وقوله سبحانه «إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ» آل عمران 19. كذلك نجد قول النبي صلى الله عليه وسلم «.... وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة». أما فيما يتعلق بالبنية التشريعية فإننا نقرأ في أحكام الإسلام وتشريعاته عدداً من الملامح التي تؤكد العالمية للإسلام وتحمل في الوقت ذاته أسمى المعاني الإنسانية في التقنين والتشريع، من ذلك: الدخول الطوعي الذي لا جبر فيه ولا إكراه في زمرة هذا الدين والإيمان بأركانه وأحكامه، يدل على ذلك قول الحق سبحانه «لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» البقرة 256. وقوله سبحانه «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ» الغاشية 21-22. وقوله سبحانه «أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ» يونس 99. قبول الإسلام للتعددية الثقافية ما دامت لا تتعارض مع تشريعاته وتعاليمه، من أجل ذلك رأينا عالمية الإسلام وقد ضمت تحت رايتها سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي وعمر بن الخطاب القرشي. احترام الخصوصيات الثقافية للأمم والشعوب، وقد رأينا ذلك عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الأنصار يحبون الترويح والإنشاد في مجالسهم، وحينئذ زفت جارية لرسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم محترماً هذه الخصوصية: «يا عائشة إن الأنصار قوم يحبون اللهو، فهلا بعثت من يضرب بين يديها بالدف أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم فلولا الذهب الأحمر ما حلت بواديكم، ولولا الحنطة السمراء ما سمنت عذاريكم». التأكيد على وحدة الأصل الإنساني، وهذا مبدأ يعبر عن وجه الإسلام الحضاري والرقي الإنساني في أسمى صوره وأجمل معانيه، فغير المسلم في ظل تشريعات الإسلام ينعم بالمساواة ، وله من الحقوق ما يجعله يعيش كريماً في ديار المسلمين، وحسبنا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «لهم ما لنا وعليهم ما علينا». ومن قبل ذلك قول الحق سبحانه «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا» الحجرات 13. وقوله سبحانه «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ» النساء 1. وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( ألا لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح)). ويذكر التاريخ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد انتصب واقفاً لجنازة مرت عليه، فقيل: يا رسول الله إنها جنازة ليهودي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أليست نفساً؟ من أجل ذلك أخذت هذه التشريعات بألباب العديد من مفكري الغرب حتى قال جوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) «إن العرب يتصفون بروح المساواة المطلقة وفقاً لنظمهم السياسية، وإن مبدأ المساواة الذي أعلن في أوروبا راسخ في طبائع الشرع الإسلامي رسوخاً تاماً، وإنه لا عهد للمسلمين بتلك التشريعات الظالمة التي تؤدى وجودها إلى أعنف الثورات». ومن ذلك أيضاً ترسيخ الحقوق الإنسانية في السلم وفى الحرب، لا فرق في ذلك بين رجل وامرأة، نقرأ في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «استوصوا بالنساء خيراً». وقول الله سبحانه «فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء» محمد 4. ونقرأ كذلك تلك الوصية الخالدة من النبي صلى الله عليه وسلم لقادة جيوشه حين قال لهم :» اغزوا ولا تغدروا، ولا تغلوا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً». وقول الصديق أبي بكر في وصيته الجامعة «لا تهدموا بيعة، ولا تحرقوا زرعاً، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تقتلوا شيخاً كبيراً ولا صبياً صغيراً» . هذه التشريعات وغيرها التي تعبر عن عظمة الإسلام في بنيته التشريعية كانت لها انعكاساتها على اتفاقية (جنيف) المتعلقة بحقوق الأسرى عام 1949م، وكذا اتفاقية (جنيف) الخاصة بمعاملة المدنيين أثناء الحرب والغزو، والتي وقعت في العام ذاته، بل إننا لا نكون مبالغين لو قلنا إن الإعلان العالمي المتعلق بالقضاء على التمييز ضد المرأة قد تأثر بما ورد في الشريعة الإسلامية في هذا الشأن، لا سيما ما ورد بشأن حقوق المرأة في الأهلية القانونية والميراث والتملك، ولا غرابة في ذلك فقد ترجمت كثير من كتب الفقه للغات الأوروبية، لا سيما الفقه المالكي، الذي كان له أثره البالغ في كثير من قوانين الدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا حيث ترجم كتاب (المختصر في الفقه) للخليل بن اسحق بن يعقوب عام 1374 ه ، كما يصرح بذلك المستشرق الفرنسي سيديو، والمفكر الإنجليزي هربرت ويلز في كتابه (ملامح تاريخ الإنسانية). في ضوء هذه المعطيات وغيرها تحقق للإسلام عالميته والتي ضمت تحت رايتها أعراقاً شتى، وأجناساً متباينة، لكل منها إرثها الثقافي والحضاري، ذلك الإرث كان من الأسباب المباشرة في صياغة وتشكيل الحضارة الإسلامية التي اعتمدت على التعدد في مواهبها ، والتنوع في طاقاتها الإنسانية والإبداعية، حتى رأينا وقد لمع في سمائها بجانب العرب نجوماً زاهرة من غيرهم كالحسن البصري، والإمام البخاري في مجال الحديث، وفى مجال الفقه وجدنا إمام مدرسة أهل الرأي الإمام أبي حنيفة النعمان، وكان من أهل فارس، وإمام أهل الفقه في مصر الليث بن سعد، الذي كان مولده في أصفهان ونشأته في قلقشند ووفاته في القاهرة، ورأينا في سماء الفكر واللغة بشار بن برد، والفارابي، وابن سينا. من أجل ذلك وجدنا المفارقة بين الحضارة الإسلامية وغيرها من الحضارات، فالحضارات الأخرى تفاخر بالنجباء من بنى جنسها، بيد أن الحضارة الإسلامية تفاخر بعالميتها، والتي شيد صرح المعرفة فيها كافة الأمم وسائر الشعوب التي ارتفعت فوقها خفاقة راية الإسلام فساهم في صياغتها العربي بجانب العجمي مع التباين في الأصول، والاختلاف في الأوطان، بيد أن هؤلاء وأولئك وحدتهم كلمة الإسلام فقدموا للإنسانية أروع تراث، وأنبل رسالة، وأعظم تشريع. د. محمد عبد الرحيم البيومي كلية الشريعة والقانون جامعة الإمارات
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©