الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

بيروت مدينة حليم بركات الملوَّنة

29 ديسمبر 2006 00:47
رسول محمد رسول: منذ ربع قرن بعد الجولات الأربع الأولى من الحرب الأهلية في صيف ،1975 هاجرتُ من بيروت على أمل أن يكون رحيلي عنها مؤقتاً، وعند بدايات دفن الأحلام الكبيرة والصغيرة دونما تمييز، ومن حيث لا أقصدُ، وعلى عكس ما تمنَّيتُ، وبسبب ظروفي الخاصة، طال الغياب في واشنطن ربع قرن تخللته زيارات سنوية قصيرة متقطِّعة إلى بيروت التي تربطني بها علاقة طقوسية بخيوط واهية لا مرئية· وهكذا دون توقُّع أوتخطيط، تحوَّلت الهجرة المؤقتة إلى هجرة دائمة، فوجدتُ نفسي في المنفى، ولا أدري هل هو نفيٌ طوعي أم قسري؟ مهما كان، واظبتُ على القيام بزيارات عابرة في زمن الحرب كما في زمن السلم العابر، وخفَّف ذلك بعض الشيء من آلام المنفى· وها قد مضى ربع قرن وما تزال آثار الحرب تتفاعل فتعيش معنا، وتقتات خبزنا، وكان أن تاقت نفسي لاستكشاف بيروت بعد انقطاع طويل، فأستأنفُ علاقتي بأزقتها، أحيائها، أُناسها، لهجاتها، لغاتها، رموزها، تصوراتها، أسرارها، طموحاتها القديمة والجديدة، إحباطاتها، روائحها، تعاملها مع البحر والجبل والشجر· المدينة وضواحيها بهذه الكلمات بدأ المفكِّر العربي حليم بركات كتابه (المدينة الملونة)، الصادر عن دار الساقي في بيروت هذا العام، والكتاب عبارة عن مذكرات لكنه نص رحلاتي يعود به بركات، الذي ترك الشرق الأوسط برمَّته لعيش في الولايات المتحدة الأميركية منذ سنوات طويلة، إلى لبنان، حيث الحياة الأولى والتعلُّم الأول، والأيام الأولى· كان بركات قد جاء لبنان لمرّات ومرّات، وكانت نظراته وتأمُّلاته إليها وفيها، مُمنهجة، كما هو عقل المفكِّر، فقال في هذا الشأن: إنني مسكون برغبة البحث، بالتنقيب، برؤية الصورة في شموليتها وما وراءها، وكيف تكوَّنت ولماذا، وما كان فعل التاريخ بها وهي التي تتغنى بإنجازاتها التاريخية في الوقت الذي ينتشر فيها تيار يولعُ بتقليد تفاهات الحضارة الغربية أكثر من الانفتاح على تجاربها الإبداعية، وأكثر ما يؤلم في تصرف هؤلاء أنهم يحددون هويتهم بما يستوردون وليس بما ينجزون· لا يلجأ بركات إلى التوصيف العابر إنما يعمل قدراته التأملية في حركية الحياة في بيروت، فبدت، من منظوره، منعزلة عن ضواحيها البعيدة، ومن الأساطير التي اعتدنا، يقول بركات، الافتخار بها أن أحد ملوك جبيل تزوج امرأة تدعى بيروت، فبنى لها مدينة أسماها باسمها، ثم أهدتها إلى الإله نبتون، إله البحر، الذي جعلته شفيعها، وقيل أيضاً في الأساطير: إن شفيعها كان ما جرجس الذي حاول عبثاً إنقاذها من التنين· أما أنا فأقول: إن التنين ما زال يهدِّدها، وإنها ولدت نتيجة لعلاقة عشق بين البر والبحر، وصحيح أن أبوابها وأسوارها هُدِّمت، لكن جماعة من جماعاتها العديدة ظلَّت تعيش ضمن أسوارها الوهمية وبواباتها الخفية المغلقة· عن علاقة حليم بركات الحميمة بمدينته كتب يقول: أجدُ نفسي منجذباً إليها انجذاب الفراشة إلى الضوء، وعند الافتراق أشعر أنني أحبها أكثر مما تحبني، أوهكذا أظن في تلك اللحظات العابرة التي أبدو فيها أمام مرآة نفسي كما لو أنني ألجأ إلى محاولة فاشلة للتخفيف من أوجاع داخلية ومن انتقاداتي كي أُسوِّغ هجرتي، ثم أعود لأحنُّ إليها بعد طول الغياب، وأزداد تعلقاً بها فأتساءل لماذا أُعاملها بلطف بينما تعاملني بقسوة أم ترى العكس هو الصحيح؟ وحين تتضح لي هذه الأمور بكل تعقيداتها وسياقاتها، أشعر أن علاقتي ببيروت ليست على هذا القدر من الغرابة كما أظن، إنها علاقة انجذاب ونفور متبادلة تزداد حدة وتعقيداً وقسوة في الأزمات عندما تفلت الأمور من يدها ومن يدي· بيروت ومرآة النفس لقد وضع بركات كل تلك الأفكار تحت عنوان (استكشاف المدينة من خلال دمارها)، وتحت عنوان فرعي هو (زمن الولادة الجديدة)، ويقصد بذلك محاولة العودة إلى بيروت التي تعرضت إلى خراب طال أمده ونُخرت أطلاله كثيراً، لقد تميزت كتابة بركات في الجزء الأول من كتابه برؤية تحليلية فلسفية عن علاقته كمفكِّر ومثقف بلبنان عامة وببيروت على نحو خاص· أما الجزء الثاني فقد عاد فيه بركات إلى النشأة والتكوُّن، لقد راقت له تسمية أوراقه الطويلة في كتابه هذا بـ (يقظة الذاكرة من رماد الفجيعة)، والذاكرة التي عناها بركات هنا هي العودة إلى الذاكرة بل العودة إلى مكان الولادة والنشأة والتكون، لكنه آثر أن يجعل من كتابة الذاكرة رحلة إلى الماضي والى أمكنته الساخنة التي تحولت إلى رماد فاجع الأثر· لقد بدأت علاقة حليم بركات ببيروت في طفولته المتقدِّمة، وتحديداً في التاسعة أوالعاشرة من عمره، لكنه يتوغَّل في تفاصيل العيش هناك ليعود إلى أيام تشكُّل الأسرة الأولى ورحيلها إلى بيروت عام ،1942 ومن ثمَّ الانتقال إلى بدايات الصبوة والخيبة، والى أيام الدراسة، وبالتالي تفاصيل الحياة وتحولاتها الكبيرة، كالانتماء السياسي، والانتماء العاطفي وتجارب الحب والعشق· يستذكر بركات أصدقاءه من الكتاب والمفكرين، يحاول أن يكون جزءا من بيروت لكنه عدما يحاول، إنها عذابات المغترب، فكل شيء تغير وما عادت تلك الحميمية موجودة أيام كان يعيش في بيروت، فعاد إليها باحثاً ومنقباً كما قال سابقاً، حاول أن يتقمَّص دور المستشرق لكنه وجد في ذلك مزية غير ممكنة، وحاول أن يكون راوية لأحداث مضت في بيروت لكنه الألم يعتصر داخله، ما كان مخيال بركات الرحلاتي مستقراً، فالنص لديه يمكث في مكان ليخرج إلى ذكرى مكان، يستريح عند ذكرى ليفلت إلى أمكنة المنفى وتحديداً واشنطن حيث الذكريات الغربية، وهكذا· لقد قرأت الكثير لحليم بركات، خصوصا كتبه الفكرية، لكني لم أجد لغة شعرية كالتي أقرأها في كتابه المدينة الملونة، فنصه حافل بالصور الشعرية بقدر ما هو حافل بشعرية السرد، ويتداخل فيه القص مع المذكرات إلى جانب السرد الرحلاتي الجميل في تناوله الوصفي للمكنة وللذوات، للبشر وللمدن معاً، لقد استعان بالأساطير إلى جانب القصائد ليجعل نصه الرحلاتي يخرج عن المنثور المعتاد إلى نص متراكب الأجناس المألوفة·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©