الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رثاء المدينة المسلوبة

رثاء المدينة المسلوبة
18 سبتمبر 2013 21:41
يرصد الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد في روايته “الإسكندرية في غيمة” تحولات هذه المدينة في ثقافتها وهويتها وجذورها، وذلك بعد تولي أنور السادات الرئاسة في مصر، لتكون هذه الرواية هي تمام ثلاثية عبدالمجيد في قراءة الإسكندرية منذ “لا أحد ينام في الإسكندرية”، مروراً بـ”طيور العنبر”، وهذه الرواية التي صدرت عن دار الشروق. ومن خلال أبطال الرواية يحفر عبدالمجيد عميقاً في تقصي تلك التغيرات، التي لم تتوقف عن الثقافي والاجتماعي كتغير يمكن أن يمثل مرحلة فقط، بل وصولاً إلى الأثر والبعد النفسي جراء تلك التشوهات، التي ارتكبت بحق هذه المدينة المفتوحة على البحر، وكأنما على احتمالات وتوقعات كثيرة مروراً بالتغير الديموغرافي، الذي يترك تساؤلات ومخاوف كبيرة عند مجموعة من الشباب المثقف في الجامعة، ويجعلهم يناضلون من أجل قضايا وجودهم ومصيرهم في ظل سيطرة قوى أخرى تريد خنق ذلك الفضاء والاهتمام بأمور سطحية، وبالتحالف مع السياسي بدلاً عن مصير إنسان البلد الكادح والمناضل من أجل كرامته ووطنه. مجموعة من الشباب المثقف مثل نادر ويارا وبشر وكاريمان وغيرهم تمثل حياتهم شرائح مختلفة من المجتمع مثل روايح وغادة ونوال وعيسى الشيوعي القديم ومرشد الطلاب الجامعيين وخريستو، وتمثل حكاياتهم توثيقاً مهماً لكل تلك التحولات حتى العابر والشعبي منها، وصولا إلى المصيري، والذي يكشف الأوراق والحقائق وما يشبه مؤامرة دبرت وحيكت عليهم وما يطالبون به، فيمرون بالاعتقالات التي صاروا يعرفون مواعيدها، وكأنها ملزمة والتحقيقات، ويتتبعهم المخبرين في كل مكان يذهبون إليه. وتتكون بالمقابل الأحزاب السرية والمنشورات والعمل المنظم وصولاً إلى متابعة ما يحدث في العالم. يرصد المؤلف التأثيرات الإجتماعية والسياسية التي جرت في عهد السادات، خصوصاً بعدما نسج علاقاته مع الغرب، واتخاذه بعض القرارات المهمة، ويعكس كيف كانت مدينة الإسكندرية بثقافتها المختلفة والمتسامحة وطبقاتها المتنوعة كذلك ضحية للتطرف وللمخاوف السياسة في آن واحد. يوظف عبدالمجيد مخزونه الثقافي الكبير عن الإسكندرية في الرواية، فنقرأ مزيجاً جميلاً بين التاريخي والواقعي دون أن نشعر أنه مقحم أو بعيد عن حاجة النص. تاريخ الإسكندرية، شوارعها مقاهيها ودور السينما والمتاحف، وتلك الحكايات المتناثرة هنا وهناك مع عيسى سلماوي وخريستو اليوناني مثلاً، فنقرأ ما يشبه التاريخ الشخصي المخبأ لهذه المدينة، وانعكاسه في مرحلة مفصلية على عرقياتها وفئاتها المختلفة، سواء كان أفرادها من اليونانيين أو الشوام أو اليهود، أو مصريين موسرين. سكان البيوت كانوا كذلك، والبيوت في معظمها بنيت قبل ثورة 1952، أقلها بني في الخمسينيات. التزم أصحابها بقوانين البناء، فلا يرتفع البيت عن عرض الشارع مرة ونصف إلخ.. تتغير أسماء المتاجر وبعض العادات وملامح الفرح، وتبدأ الحياة تأخذ شكلاً غريباً عن الأمكنة، جافاً وحاداً ومتشحاً بالجهل والقسوة، فتتبدل قناعات البعض، وتصبح ردة فعل حادة لدى البعض الآخر. يسود النفاق المسيس أو الذي يتخذ من الدين وسيلة وطريقة، وتبدأ الأجواء البحرية بالانغلاق والأمواج بالانحسار والأغنية بالتلاشي. وفي لمحة خاطفة يعرج عبدالمجيد على القاهرة، ربما لنلاحظ التغير بين مكانين مختلفين في نفس الظروف السياسية والتحولات، ولكنها تظل لمحة خاطفة سرعان ما تعود بنا إلى الإسكندرية، إذ يستعرض تلك التغيرات حفراً في البنى المعرفية، وكيف تم تشويه معالمها وسلبها في رأسمالية بشعة سيطرت على المكان، وبالتالي على كل نواحي الحياة، وكأنما كان كفافيس الشاعر، الذي كتب عن الإسكندرية حباً وحزناً حاضراً مرة أخرى، وهو يقول: “ودّع الإسكندرية.. الإسكندرية التي تضيع منك.. إلى الأبد”. ويكتب عبدالمجيد على لسان أحد الأبطال: “إذن أترك هذه المدينة حتى إذا كتبت قصتنا كتبت قصتها معنا لن تكتب قصة المدينة وأنت فيها، وإذا وجدتني لن تكتب قصتنا أبداً أبداً”. شعور الخيبة الذي امتد شيئاً فشيئاً ليتجاوز السياسي نحو الاجتماعي والحياة الثقافية ورثاء طويل للمدينة المسلوبة، وربما كانت شخصية نادر من تتجلى فيها هذه الخيبة والانكسارات بوضوح حتى في حبه ليارا التي شاركته مقاعد الدراسة الجامعية، حيث نهاية قصة الحب بينهما لها علاقة غير مباشرة بتلك التغيرات، وزواجها من رجل دولة فيما يشبه الصفقة، وكاريمان التي تتلخص مأساتها في سيطرة التطرف وزوج أمها على حياتها وإصابتها بخيبة مع كل من حولها، حيث أخيراً تقتل ذلك الرجل وتحاول الانتحار بشكل جاد لولا أن هناك من أنقذها لتواجه السجن مرة أخرى ولربما لنفس السبب ولكن بشكل غير مباشر.  وعلى رأي ايكو في “غابات السرد” تتخلى الرؤية عن البعد الجغرافي بعد ذلك لكي تحتضن شيئاً فشيئاً بعداً طبوغرافياً عندما نبدأ في تبين الجسر وتمييز الضفاف. لا يقع عبدالمجيد في ورطة مع الراهن المصري اليوم، فما حدث بالأمس ليس إلا إرهاصاً وامتداداً لحضور القوى المختلفة في صراعاتها، بل نجد رواية توثق لمرحلة مهمة بعيدا عن الشكل التاريخي السردي المعلوماتي، وإنما من ملامح الناس وأحزانهم وثورتهم، فهم علامة على المكان والتاريخ، وهم نماذج وشخصيات تشكل كل شرائح المجتمع، وإبراهيم عبدالمجيد يكتبهم بحب ملوحاً بالأسئلة والحقائق: “وسأل سعد زغلول بسرعة لماذا لازلت تنظر إلى البحر. بلادنا الآن تنظر إلى الشرق. إلى صحراء الجزيرة العربية! هل يمكن حقاً أن تستدير؟ أو تترك مكانك لينسي الناس ثورة 1919؟”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©