السبت 4 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أسرى الماضي!

أسرى الماضي!
12 سبتمبر 2013 21:25
أبي أستاذ بكلية الطب، أمي مثله تزوجها بعد أن جمعتهما الزمالة في الجامعة وهما في مرحلة الدراسة، كانت بينهما عوامل مشتركة كثيرة، وتشابها في الظروف المالية والمستوى الاجتماعي، كل منهما من أسرة فقيرة، كانت تأمل أن يلتحق ابنها بهذه الكلية التي تعد قمة العلم والأمل، وتحققت الأمنية، أبي يعيش دائماً في الماضي، يحبس نفسه فيه، بل هو أسيره بشكل يكاد يصل إلى المرض، لا يكف عن الحديث عنه ولا يغفله ولا ينساه، يستدعيه عند كل موقف يمر به أو بنا، يذكرنا به بمناسبة وبلا مناسبة، يضع يديه في جيوبه وهو يتمشى في الصالة ذهاباً وجيئة بهذا “الروب” الذي يستمد منه بعضاً من ملامح شخصيته، محاولاً أن يظهر أنه من طبقة أرستقراطية حسب أوضاعه الحالية، فأراه يعيش في شخصيتين متناقضتين لا تلتقيان، ومع ذلك فهو يجمع بينهما حسب حالته المزاجية. ولد أبي في أسرة مكونة من تسعة أفراد، أبوه موظف بسيط، عامل نظافة في مدرسة، ثم يعمل في الفترة المسائية أعمالاً أخرى مختلفة، وأمه أمية تحاول أن تدير شؤون الأسرة بما يلقيه زوجها في يدها من مال، الجميع يعيشون على هامش الحياة، اضطر أبي للعمل وهو صغير وتعرض للضرب والإهانة من أصحاب العمل وقد سبب ذلك له عقدة نفسية لشعوره بالهوان والنقص، بداخله جرح عميق لا يندمل ومع أنه طبيب كبير متخصص بعلاج الجروح، لكنه لم يستطع أبداً أن يداوي جروحه كل هذه السنين، يتذكر أنه بكى كثيراً مرات عدة ينتحي جانباً تحت حائط تسيل دموعه حارة غزيرة، لم يجد من يربت على كتفه ولا يسأله عما يبكيه، الناس يمرون بجواره يتجاهلونه كأنه غير موجود، وهو لا يريد في نفس الوقت منهم أن يكلموه، يقاوم الجوع ويفكر في حاله، وتنقل من عمل إلى عمل حتى أصبح خبيراً في الأعمال اليدوية والحرفية، من كهرباء وسباكة ونجارة، كما عمل في المقاهي وهو يحاول خلال ذلك كله أن يتجنب أن يذكر شيئاً عن نفسه فلا يقول إنه في المدرسة ولا أين يقيم، يحيط نفسه بالغموض الشديد ولا أحد يهتم لذلك، لكنه يصر عليه لحاجة في نفسه. استمر في ممارسة تلك الأعمال وهو في الثانوية والجامعة، وازداد حرصه على إحاطة نفسه بالسرية، واضح أنه يرى أن تلك نقيصة لا يريد لأحد أن يطلع عليها وهو في هذه الحالة، يتحمل كل مسؤولياته واحتياجاته الكثيرة والتي تفوق إمكانات أسرته التي بالكاد تجد الخبز لتعيش، يحاول أن يحقق طموحاته في وسط هذه المعاناة، ولا يخلو الأمر من بعض الحنق والضيق وقد يصل إلى الحقد أحياناً على الأغنياء الذين يجدون كل شيء سهلاً ميسوراً، يرى تلك الصورة عدم عدالة خاصة عندما ينظر إلى زملائه من حوله يحضرون إلى الجامعة بسيارات فارهة، ومنهم من عنده سائق خاص، وبملابس من الماركات العالمية بلا أدني جهد وبلا تميز منهم، ويجدون هذا كله تحت أيديهم، لذلك وضع نفسه في عزلة اضطرارية لأنه لن يستطيع أن يجاري الآخرين. لم يجد إلا واحدة مثله في هذه الظروف، جمع بينهما الفقر والطموح، وجد كل منهما عزاءه في الآخر، فكان التعامل بينهما بلغة يفهمانها ووجدا ارتياحاً متبادلاً، وصل فيما بعد إلى الرغبة في الارتباط عندما وصلا إلى نهاية رحلة الدراسة الطويلة والمضنية، لكن المعوقات كثيرة والمطالب صعبة وتكاليف الزواج تعجيزية، ولم يتوقف عن تلك الأعمال الحرفية إلا بعد أن تخرج وحصل على الشهادة بتفوق، وتم الاتفاق بينهما على الزواج بعد أن تستقر بهما الحالة الوظيفية، ولحسن الحظ فقد تم تعيينهما في مستشفى واحد، وبدآ التخطيط للمستقبل معاً كل منهما يحاول أن يخفف عن الآخر الهموم التي تجثم على صدره، فهما بحاجة إلى مسكن وأثاث وخلافه، بجانب أنهما تم اختيارهما معيدين في الكلية وهذا يعني الاستمرار في الدراسة وزيادة الأعباء المالية. هذان هما أبي وأمي في بداية حياتهما، حتى جئت إلى الدنيا ولم ينجبا سواي متعمدين أن تكون أسرتنا صغيرة جداً، خشية الإملاق والمصروفات والنفقات، مازال الماضي بفقره وآلامه يطاردهما، يفران منه بكل سرعة وبقدر ما يستطيعان، لا أبالغ إذا قلت: إن ذلك أصابهما بالبخل الشديد، أصبحا حريصين على المال بشكل مبالغ فيه، رغم أن الحال قد تغيرت كثيراً بل تغيرت تماماً، فنحن نعيش في شقة فسيحة هي أقرب إلى الفيلا وفي منطقة راقية جداً، لي فيها غرفة خاصة ولأبي مكتب مستقل عن مكتب أمي بخلاف صالة الاستقبال وغرفة نومهما وغرفة الطعام، وتسير حياتنا بنظام دقيق، نستيقظ في الصباح الباكر، أتجه إلى مدرستي ويتجه أبي وأمي إلى الجامعة، وفي الرابعة عصراً نعود جميعاً في وقت واحد نتناول الطعام الذي أعدته أمي في اليوم السابق، فلم نعتد تناول الطعام الطازج ولا الوجبات الجاهزة من خارج البيت، مع أنني أشتاق لها كثيراً ولم أجربها، فقط أسمع عنها من زملائي وأصدقائي وأراها في الشارع. حياتنا غير عادية وغير طبيعية، كنت أعتقد ذلك وهماً لأنني صغير السن ولا أعرف كيف تسير الأمور ولعلي أكون مخطئاً ويتم تصحيح الأوضاع فيما بعد، فأنا ومنذ وعيت، وخاصة بعد أن التحقت بمرحلة رياض الأطفال، أتلقى توبيخاً وتأنيباً بلا داع وبلا سبب، فهل أنا مذنب لأنهما قاما بإلحاقي بمدرسة خاصة في هذه المرحلة المتقدمة من العمر، فقد وجدت أبي يعيرني بذلك وأنني لا أهتم ولا أشعر بما أنا فيه من نعم وأنه لم يكن يتوفر له ذلك عندما كان في مثل عمري ولم يلتحق بمدرسة خاصة وإنما كان في مدرسة حكومية، يجلس محشوراً بين عشرات التلاميذ. ولم تكن هناك سيارة تقوم بتوصيله ذهاباً وجيئة كما يحدث معي، بل إنه كان يسير على قدميه عدة كيلو مترات حتى يصل إلى المدرسة، وتباعدت به المسافات في المراحل التعليمية التالية وتتزايد المسافات ويغترب أكثر حتى التحق بالجامعة. عندما أقلب ذلك الأمر أجده معذورا فيما يقول، لكن في نفس الوقت أنا لست مسؤولاً عن ذلك ولم أطلب أن يفعل معي ذلك ولو ألحقني بمدرسة حكومية عامة ما كان لي أن أعارض، والأغرب في الأمر أن أمي توافقه فيما يقول ولا تحاول أن تتدخل لوقف هذا الكيل المستمر من التوبيخ غير المبرر، فلا أعرف أيضاً إن كان لي ذنب في أن أبي لم يكن يجد في صباه وشبابه ملابس للشتاء وأخرى للصيف، وأنه يأتيني بها، وكذلك يعيرني بأن أمثالي لا يجدون ما أجد ولا يعيشون في هذا الرغد المتوهم الذي أعيش فيه، فكل من أعرفهم لا يعيشون معاناتي وهذا التوتر الذي يضعني فيه أبي وأمي باستمرار. كرهت حياتي كلها، كنت أتعجل الالتحاق بالجامعة حتى أكون بعيداً عن أبي وأمي وتتوقف هذه الحلقات المتواصلة، ولكن لسوء حظي فقد اجتهدت لأنال استقلالي، وتفوقت في الثانوية العامة وحصلت على مجموع يؤهلني للالتحاق بأي كلية أريدها، وكنت ارغب في الالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية أو الإعلام، لكي أكون بعيداً عن تخصص أبي وأمي، وأتخلص من أي شيء مشترك بينهما وبيني في حياتي القادمة، لكنهما أجبراني على الالتحاق بكلية الطب طبقاً لقناعتهما ورؤيتهما بلا نقاش معي وبلا سماح لي بإبداء رأيي بحجة أنهما يعرفان مصلحتي أكثر مني فإنني وإن كنت بلغت الثامنة عشرة من عمري فإنني مازلت صغيراً ولا أعرف شيئاً في الدنيا. لم أكن أكره دراسة الطب في حد ذاتها وإنما لا أريدها من أجلهما، وكما قلت حتى لا يوجد بيننا عامل أو اهتمام مشترك، ومع ذلك فقد تفوقت أيضاً في هذه الدراسة وكنت أحرز المركز الأول، وطوال تلك السنوات لم يتوقف سيل المنّ الذي ينهال عليّ من أبي بأنني أجد كل شيء حاضراً وميسراً بلا جهد أو معاناة، كل المراجع والتسهيلات تحت يدي، فلم أتعب ولم أتعرض لما تعرض له من الاضطرار للعمل، أرتدي أفضل الملابس وأقيم في غرفة مستقلة تتمتع بالخصوصية، ولأن أبي وأمي في نفس الكلية التي أدرس بها فقد كنت أستقل معهما السيارة في الذهاب والعودة، وتلك كانت منة أخرى منهما ويريان أنه كان يجب أن أعاني مثل معاناتهما وأن أعيش مثلهما حياة الشظف والعوز والفقر حتى أشعر بالنعيم الذي أنا فيه، وفي الحقيقة فإن هذا كله أقل وطأة من الأسلوب الذي يتعاملان به معي، وليتني كنت أستطيع أن أستقل بحياتي وأعمل وأعيش من جهدي لكنهما لا يسمحان لي بذلك ولا يكفان عن ترديد نفس الكلام. تخرجت وعينت معيدا في نفس الكلية التي يعمل بها أبي وأمي، فلم أستطع الانفصال الجزئي عنهما واستمرت نفس الظروف حتى بعدما أصبح لي راتب ودخل شهري أنفق منه على نفسي ولا أطلب منهما شيئا، لكن يبدو أن أبي وأمي أدمنا تلك الوسائل في التعامل معي وقد مللتها، حتى فقدت الثقة بنفسي فليس لي حق في فعل أي شيء ولا اتخاذ أي قرار في الأمور التي تخصني، جعلوا مني مسخاً بلا معالم، وتناسيا أنهما مسؤولان عن كل ما أحتاج إليه، وأنا أرى أنني لست مميزاً في شيء عن الذين من حولي بل أجدني مع هذا الثراء الذي ينعم به أبي وأمي أقل مستوى من الجميع. الحقيقة المرة أنني أصبحت بلا شخصية، ولا أستطيع الاعتماد على نفسي في أقل ما يخصني، حتى ملابسي لا أجيد اختيارها ولا شراءها وحدي، الشقة التي سأعيش فيها كانت من اختيارهما، مرت سنوات طويلة لم أفكر في الزواج، رحل أبي ثم أمي عن الدنيا، لم أشعر بالحرية بعدهما ولا بالتخلص من تلك القيود وإنما بالحاجة لمن يدبر لي أموري، الآن بلغت الخمسين وحالتي تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، أشعر بالضعف في كل الأحوال، بسبب عقدة أبي وأمي التي ورثت آثرها رغم أنفي. مع هذا لم يكن يوماً داخلي أي كراهية لأبي وأمي واعتبر ذلك من قبيل حبهما لي وخوفهما عليّ. نورا محمد (القاهرة)
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©