الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«الناتو»... هواجس أمنية مستعصية

«الناتو»... هواجس أمنية مستعصية
10 ديسمبر 2010 20:02
لم يعد للاتحاد السوفييتي من وجود على الخريطة كما أن أوروبا التي هزتها الحروب لفترات طويلة تعيش اليوم حالة من السلم والهدوء تتفيأ بظلال تحالف عسكري هائل وكبير، هذا في الوقت الذي لا تعاني فيه الأراضي الأميركية من أي تهديدات حقيقية بفضل موقعها الجيوسياسي وبعدها عن المشاكل كما لا خوف عليها من جيران خطيرين فضلاً عن تفوقها العسكري الطاغي. والخلاصة أن المحيط الأطلسي آمن ينعم بالسلام، لكن رغم هذا الهدوء واستبعاد نشوب حروب كبرى ونشوء أخطار أهم على نمط حياتنا متمثلاً في اندلاع أزمات اقتصادية متلاحقة ساحة معركتها الأساسية هي البنوك والمصارف، يصر حلف شمال الأطلسي (الناتو) أنه لم يحقق كل ما يصبو إليه، وأنه ليس راضياً تماماً على نجاحه الأمني التاريخي، بل مازال في حاجة إلى تأمين نفسه أكثر. وبسبب هذا البحث المحموم عن الأمن والرغبة منه في تبرير وجوده والغاية من استمراره لا يكف "الناتو" عن استطلاع العالم جيئة وذهاباً راصداً أي إرهاصات لأخطار مفترضة، وليس غريباً في هذا السياق أن تبقى المهام والأهداف المتفق عليها لحلف شمال الأطلسي مفتوحة وغير واضحة وهي بنفس درجة التردد وغياب الحسم في عملياته المتعددة سواء في البوسنة أو السودان أو كوسوفو أو أفغانستان، هذا ناهيك عن المحاولات الدؤوبة وغير المفهومة أحياناً لضم أعضاء جدد. والحقيقة أنه في كل مرحلة من مراحل تطور "الناتو" تطفو إلى السطح مقترحات تبدو بعيدة عن الواقعية فتارة يُقترح توسيع الحلف شرقاً وتارة أخرى يتم الحديث عن التخلي عنه نهائياً وركنه جانباً في متاحف التاريخ، لكن الأكثر غرابة هو الاقتراح بضم روسيا نفسها وتشكيل حلف كبير أطلسي روسي، هذه المشكلة المترتبة عن تحديد هوية الحلف ليست جديدة فقد كانت وراء الحرب الدامية في عام 2008 بين روسيا وجورجيا، كما أنها تكمن في عمق الانقسامات الموجودة في المجتمع الأوكراني، بالإضافة إلى استمرار الحرب في أفغانستان وما تسببه من ضحايا بين الجنود. ولتبرير توسيع مهام "الناتو"، يشير بعض المسؤولين إلى العالم المعقد الذي نعيشه والمناطق دائمة الاضطراب على تخوم الحلف والأطراف التي تهدد المركز وتصدر له المشاكل، ويحذر المسؤولون أنفسهم من الإرهابيين المدججين بأسلحة فتاكة، أو من الدول الفاشلة والهجمات الإلكترونية. وما قد ينتج عن ذلك من فوضى وردود أفعال متلاحقة، هذه القراءة للواقع الدولي تستوجب في نظرهم التمدد بالحلف شرقاً إلى الحدود الروسية والانخراط في مغامرات عسكرية لمنع الدول الآيلة للفشل من السقوط في الفوضى، أو تبني أنظمة دفاعية مثيرة للجدل مثل الدرع الصاروخية التي كان مقرراً أن تقام في أوروبا الشرقية. وفي عصر يتم الترويج فيه للأمن الإنساني بمفهومه الشامل أصبح من مهام الدفاع في عرف "الناتو" تصدير قيم السوق الحرة والديمقراطية إلى العالم باعتبارهما عناصر أساسية لتعزيز الاستقرار في كوكب الأرض، وبالتالي تنفيذ المهام الأمنية الموكلة للحلف. والحال أن هذا المفهوم المبالِغ في نظرته الأمنية الضيقة تحول إلى نوع من الإدمان، بل غدا هاجساً متحكماً في العقول ومسيطراً على النفوس، ولا أعتقد أن الآباء المؤسسين للناتو جال في أذهانهم أن يتحول الهاجس الأمني وأزمة الهوية التي يعاني منهما الحلف بعد سقوط المعسكر الشرقي إلى خطر حقيقي يتهدده أكثر حتى من الأخطار التقليدية القادمة من خارج حدوده، فلو كان هناك من تهديد حقيقي أو تحد جسيم يواجه حلف شمال الأطلسي بتركيبته الحالية فهو نظرته التبشيرية للمحيط القريب، بالإضافة إلى نظرته الساذجة والسطحية للأخطار باستبعاد التناقضات الداخلية والتصورات المغلوطة والتركيز فقط على أخطار خارجية متربصة بأمن أوروبا والولايات المتحدة. ولا ننس الاختلالات الأخرى مثل الأصولية الأيديولوجية ونظرة الحلف لنفسه كحارس للنظام العالمي بنوايا طهرانية لاهثاً بنفسه المتقطع وراء إثبات الذات والتسابق مع السراب. غير أنه لكل من الدول الأعضاء في الحلف دافع من الدوافع تجعلها تتمسك بـ"الناتو"، فبالنسبة للولايات المتحدة يمثل حلف شمال الأطلسي وسيلة للهيمنة والتمدد عميقاً تجاه أوروبا الشرقية، بل حتى الاقتراب من روسيا ومحيطها غير البعيد. أما بالنسبة لباقي الدول المنضوية تحت لواء "الناتو" فقط شكل الحلف على الدوام فرصة لتأمين مظلة الحماية الأميركية والتي من ضمنها الترسانة النووية، هذا التلاقي في المصالح كفل استمرار "الناتو" على قيد الحياة حتى بعد انتفاء الحاجة الحقيقية لبقائه. وفي مقابل الأعباء التي تتحملها الولايات المتحدة ظلت واشنطن المهيمن الرئيسي على القارة العجوز تحسباً لعودتها مرة أخرى كقوة منافسة لأميركا على الساحة الدولية، إلا أنه وعلى غرار باقي العلاقات هناك دائماً تناقضات تنخرها من الداخل تمثلت في قبول الأوروبيين بالحماية العسكرية الأميركية وبهيمنتها على القارة مقابل الاحتفاظ بحق التعبير عن التبرم وإبداء الشكوى، فيما يضطر الأميركيون إلى تحمل العبء رغم استيائهم أحياناً فيما يشبه الصفقة المتفق عليها. ومن ناحيته وسعياً من حلف شمال الأطلسي للاحتفاظ براهنيته وحماية أوروبا الموحدة والحرة تحت الإشراف الأميركي، فضلاً عن الوقوف في وجه الهيمنة المحتملة للتحالف الفرنسي- الألماني شجعت الولايات المتحدة انفتاح الحلف على دول "أوروبا الجديدة"، وهي الدول الخارجة لتوها من عباءة المعسكر الشرقي. وقد اعتقد المسؤولون الأمنيون والاستراتيجيون أن الفوز المؤزر في الحرب الباردة سيقضي على الخلافات الأيديولوجية في منطقة "أوراسيا"، وسيدشن مرحلة جديدة من التحرر الاقتصادي والتغريب دون أن يدرسوا جيداً التداعيات السلبية للتوسع شرقاً التي ظلت غائبة كلياً عن أذهان الاستراتيجيين. لكن الحلف الذي لم يقتنع أبداً بجدوى وجوده بعد انقضاء الحرب الباردة حاول انتهاز فرص اندلاع الأزمات في كوسوفو وآسيا الوسطى لإعادة التأكيد على أهميته، وهو قام بذلك من خلال قصفه لصربيا عام 1999 والانخراط في الحرب الدائرة حالياً في أفغانستان. ومن هنا انبثقت المهمة الجديدة لـ"الناتو" المتمثلة في إخراج أفغانستان من أزمتها وتحويلها من مكان يعج بالفوضى والاضطراب إلى بلد مستقر وآمن. وقد وصلت رغبة الدول الأعضاء في الحفاظ على الحلف إلى درجة أن العديد منها تشارك رمزياً في الحرب بقوات لا يتعدى قوامها بضعة مئات فقط لا لشيء إلا لتبرير وجوده، لكن ما هو الثمن الذي دفعه الحلف نتيجة التوسع عددياً وخوض حروب جديدة؟ بيد أن أخطاء "الناتو" ونقائصه لم تغيب عن بعض المفكرين ومن أبرزهم "جورج كينان"، الذي سبق له أن حذر في العام 1997 من أن أميركا بسعيها لتمديد الحلف وفتح أبوابه أمام دول جديدة ترتكب "أكبر خطأ في سياستها لما بعد الحرب العالمية الثانية"، هذا بالإضافة إلى استعدائها لروسيا وإذكاء "مشاعرها المناهضة للغرب واستنهاض فيها المارد القومي والعسكري الكامن لديها". ومع أنه لا يمكن أبداً تبرير السلوك الروسي بتوسع الحلف والنحي باللائمة عليه، إلا أن ما يحدث في الإقليم من محاولة روسيا تأكيد تفوقها وبسط هيمنتها واستعراضها للعضلات وسياسة الإكراه التي تتبعها، فضلاً عن مساندتها للحركات الانفصالية وحربها الأخيرة مع جورجيا لا يمكن فصله عن السياق العام الذي يسعى فيه الغرب عبر حلف شمال الأطلسي إلى إهانة روسيا وتمريغ كرامتها في التراب، بالإضافة إلى تحرشاته بها وتذكيرها في كل مرة بمخاوفها التاريخية من الزحف الغربي على مناطق نفوذها. باتريك بروتر باحث بجامعة «كينج» بلندن ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون ميديا سيرفس»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©