الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غريب جدّاً لكي يعيش.. نادراً جدّاً لكي يموت

غريب جدّاً لكي يعيش.. نادراً جدّاً لكي يموت
11 سبتمبر 2013 20:46
يعيشون في الموت أو يعودون منه.. إنهم ليسوا أمواتاً، وليسوا أحياء، وأيضاً ليسوا أشباحاً. هكذا نقرأ الكتّاب المفكرين والكتّاب العظام بعدما يغيبون. هكذا يتجسد المفكر والمناضل الفرنسي، فرانز فانون، في رواية جديدة يجعله مؤلفها بطلاً لها. وهكذا يعود الأميركي أوسكار زيتا أكوستا، إلى القراء، في سيرة عنه رغم غيابه المديد والغامض، دون أن يعرف أحد عنه أي شيء. فرانتز فانون.. ثمّة أموات لهم مستقبل في روايته الجديدة التي حملت عنوان: «مشروع فانون»، يجعل الكاتب الأميركيّ جون ايدغار فيدمان، المناضل والمفكر الكبير فرانتز فانون بطلاً لها. معلّقة على هذه الرواية، كتبت جريدة «لوموند» الفرنسية في ملحقها الثقافي الصّادر يوم 19 يوليو الماضي تقول: “ثمّة أموات لهم مستقبل. وهم يصبحون لا أشباحاً، وإنّما أجداداً يمتلكون موهبة الكلام، وقادرون أحياناً على الاستماع إلى الأحياء. وفرانتز فانون واحد من هؤلاء. بعد وفاته بسرطان الدّم في واشنطن في السّادس من ديسمبر 1961، قبل أن تنال الجزائر التي ناضل من أجلها، استقلالها، ترك عالم النفس المارتينيكي المولود عام 1925 أعمالاً لها قوّة راديكاليّة، وحلقة من المريدين الأوفياء الذين يواصلون، رغم الزّمن، حوارهم معه. والأميركي جون ايدغار فيدمان واحد منهم”. مؤلّف الرواية المذكورة يضع قناعاً ليصبح مواطناً أميركيّاً يدعى توماس يقيم في نيويورك. ذات صباح، يتلقّى هذا المواطن طَرْداً مفزعاً للغاية. وهو عبارة عن صندوق وُضعَ فيه رأس مقطوعة، ورسالة من مجهول تحتوي على جملة شهيرة لفانون، يقول فيها: “علينا أن ننقل حربنا فوراً إلى أرض العدوّ. وعلينا أن نلاحقه من دون انقطاع، وأن نقطع أنفاسه”. وهذه الجملة سوف تدفع توماس للبحث في سيرة فرانتز فانون من بدايتها وحتّى نهايتها. وهو يروي لنا فصولاً من طفولته في “بور ـ دو ـ فرانس”، عاصمة جزيرة المارتينيك حيث اكتشف الفقر، ومظالم الاستعمار الفرنسي لشعبه، ولشعوب القارّة الأفريقية جمعاء. ولا بدّ انّه تأثّر كثيراً بالأفكار الثوريّة الجديدة التي كان يبثّها الشاعر المارتينيكي المرموق أيمي سيزار بين تلاميذ المعهد الذي كان يدْرُس فيه. وعلى لسانه يكتب فيدمان قائلاً: “كنت أريد أن أكون ذاك الذي يجهر بالحقيقة حول اللّون، وحول القمع، والذي يستطيع، إن أمكن ذلك، المساهمة في تحرير العالم من داء العنصريّة”. وخلال الحرب العالميّة الثانية، تطوّع فرانتز فانون للقتال ضمن الجيش الفرنسي. وفي عام 1946، حصل على منحة لدراسة الطبّ في فرنسا. وفي باريس أقام في غرفة حقيرة. وكان يستهويه التجوّل في باريس لساعات طويلة خصوصاً في اللّيل “مستمعاً إلى قلب المدينة الكبير وهو يدقّ مثل قلبه”. في أواخر الخمسينيات، وبينما كانت الشعوب الأفريقية تخوض معارك ضارية ضدّ المستعمر، تجوّل فرانتز فانون في مالي حيث ذكّرته “الضّفادع، والحشرات وسحب الغبار، والطيور بأشباح طفولته”. وفي هذه الفترة شرع في بلورة مشاريعه الفكرية مركّزاً على التأثيرات النفسيّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة التي يحدثها الاستعمار في الشعوب المستعبدة. كما أنه كان أوّل من حَدَسَ السّلبيّات الخطيرة التي ستبرز في الفترة التّالية عندما تُحكم الشعوب الأفريقيّة من قبل أنظمة “وطنيّة”. وذلك ما يبرزه كتاباه الشهيران “المعذّبون في الأرض”، و”أقنعة بيضاء، جلود سوداء” والعديد من الدراسات المهمّة الأخرى التي نشرها في المجلاّت الفكريّة المرموقة. وخلال الحرب التحريريّة الجزائريّة، أعلن فرانتز فانون عن تعاطفه المطلق مع جبهة التحرير. وفي مستشفى بليدة، عالج المرضى الجزائريين، وعنهم كتب العديد من الدراسات الطبّية المهمّة. وكان فانون يبدي إعجاباً كبيراً بسارتر. لذلك حرص على مقابلته ليكتب له مقدمة لكتابه البديع “المعذّبون في الأرض”. وقد تمّ اللقاء في روما بحضور سيمون دي بوفوار التي وصفته بـ”اللقاء المنهك جسديّاً وعاطفيّاً”، مشيرة إلى أنها لم تشهد سارتر منبهراً ومأخوذاً بشخص مثلما كان حاله مع فانون. وفي الرواية، يكشف فيدمان أن فرانز فانون ولد في نفس السنة التي ولد فيها المناضل الزنجي مالكوم أكس، ومات في نفس السنة التي اغتيل فيها باتريس لومومبا. ومتخيّلاً إيّاه في نيويورك، يكتب فيدمان قائلًا: “هل كان فانون رجلنا الثالث الصّامت على جسر “ويليامبورغ” يتأمّل ماء النّهر، والجزيرة، وصحبتنا. هل يبكي فانون مالكوم، متذكّراً اغتيال شريكه في سنة المولد، واغتيال من قاسمه الموت في نفس السنة، أي لومومبا، وكلماته المرئيّة على الصّفحات اللامرئيّة، والتي يتصفّحها الصّمت... أوروبا تعيش اليوم بسرعة جنونية جدّاً، ومتهوّرة جدّاً.. لنحاول أن نبتكر الإنسان الكامل الذي كانت أوروبا عاجزة على أن تأتي به إلى عتبة الولادة المجيدة. فانون على الجسر في ذلك الصباح يحذّرنا. فانون يخاطبنا مثلما يخاطب رفاقه، ويقول لنا: لا تقفزوا”. أوسكار زيتا أكوستا والحياة كقبر مفتوح قبل أن يختفي عام 1974 من دون أن يترك أيّ أثر يمكن أن يعين ابنه وأصدقاءه المقرّبين على معرفة مصيره، كتب الأميركي أوسكار أكوستا أزيتا سيرة حياته التي عاشها من البداية، وحتّى النّهاية كمغامرة مثيرة، أو كـ”قبر مفتوح” كا يحلو له أن يقول. وقد حملت هذه السيرة عنوان: “ذكريات بَيْسُون” (بيسون: ثور أميركيّ من الفصيلة البقريّة له عند كتفه شبه سنام ـ المنهل). وفي أوّل سطورها كتب يقول: “سأكون عارياً تماماً أمام مرآة نفسي”. وكان على حقّ إذ أنه لم يترك صغيرة أو كبيرة في حياته إلاّ وكشف عنها من دون رهبة أو توجّس، أو نفور. وقد ولد أوسكار زيتا أكوستا عام 1935 بـ”آلاباسو” بتكساس. وكان والده من الهنود الحمر هاجر مبكّراً إلى كاليفورنيا. ثمّ انتقل أوسكار وهو طفل ليعيش طفولة صعبة وقاسية في كاليفورنيا. مع ذلك تمكّن من أن يحصل على شهادة في المحاماة ليدافع عن الفقراء، والمناضلين السياسييّن المناهضين لسياسة “البيت الأبيض” من الزّنوج بالخصوص. وكان وهو شابّ يبدي إعجاباً شديداً بهمنغواي، وبالممثّل الشهير هامفري بوغارت. كما أنه كان يدمن على ارتياد الحانات حيث يكثر الصّخب والعراك بين الزّبائن. وما أن تجاوز سنّ الثلاثين حتى ساءت صحّته بسبب الشّراب، والمخدّرات. وعندما توفّيت كاتبته في عطلة نهاية أسبوع من أسابع عام 1967، ترك أوسكار زيتا أكوستا مهنة المحاماة نهائيّاً، وتخلّى عن مكتبته الخاصّة ليجوب أنحاء البلاد مصحوباً بالكاتب والصحفيّ هونتر س. طومسون الذي سيبتكر في ما بعد طريقة جديدة في الكتابة الروائيّة والقصصية سمّاها “الغونزو”. ومعاً سوف يخوضان مغامرات عجيبة، وسوف يكثران من تناول المخدّرات بمختلف أنواعها بهدف “خلخلة العقل والحواسّ” بحسب تعبير رامبو في قصيدته الشّهيرة “فصل في الجحيم”، وسوف يضعان زهوراً على قبر معلّمهم همنغواي، ويصعدان الجبال الوعرة، ويتشابكان بالأيدي مع الزبائن في الحانات، ويقضيان اللّيالي مع العاهرات في غرف وسخة. ومن وحي تلك المغامرات سوف يكتب طومسون رواية تشبه إلى حدّ ما رواية “على الطريق” لجاك كيرواك. وبعد أن أنهى كتابة سيرته، وكان ذلك عام 1972، اختفى أوسكار زيتا أكوستا فجأة. وحتى هذه السّاعة لا يعرف أحد مصيره إن كان قد مات أم لا يزال على قيد الحياة. وفي عام 1989، كتب عنه صديقه هونتر س. طومسون الذي سينتحر عام 2005، يقول: “كان هناك من الرقّة، ومن الجنون، ومن الكرامة، ومن السّخاء لدى كرة المدفع تلك (يقصد صديقه أوسكار زيتا أكوستا) ذي البشرة السّمراء، الممتلئ الجسم، والذي أنهكه العمل، والإفراط في كلّ شيء أكثر بكثير ممّا عند العديد من الأشخاص الذين نلتقي بهم في حياتنا.. لقد كان أوسكار غريبا جدّاً لكي يعيش، ونادراً جدّاً لكي يموت”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©